السبت، 18 ديسمبر 2010

قراءة في كتاب فالي نصر: الصحوة الشيعية

مفهوم الصحوة الشيعية مفهوم غير محايد
قراءة في كتاب فالي نصر: الصحوة الشيعية

لم تكن معطيات الواقع العربي الوليد بعد سقوط النظام البعثي في العراق عام 2003، غير بشير ونذير، بشير بانفتاح ديمقراطي يتجاوز نمط الحكم الأحادي للحزب الواحد، عبر نفاذ وتمكين ممكنات التعددية والدمقرطة في جسده، وهو ما لم يحدث حتى تاريخه، ونذير بسقوط مدو ودراماتيكي للنموذج الصدامي، كرمز للتسلطية السياسية، بعد خمسة وثلاثين عاما على بقائه، سقوطا سقط فيه صاحبه محكوما عليه بالإعدام وهو يسمع نكاية الثأر الطائفي، كما سقط فيه تمثاله ورمزيته تحت وطأة صيحات وزحف الأقليات والتيارات التي طالما أزاحها من واجهته.
كان المشهد الفوار بالوقائع والتحولات، الذي تشكل عقب سقوط بغداد عام 2003، مخاضا لصعود وصحوة أقلية عراقية وإقليمية، دينية عبر عنها الشيعة، كما يتجلى في هذا الكتاب، وعرقية عبر عنه الصعود الكردي الذي ترمز في اختصاصهم بمنصب رئيس الجمهورية، وهو ما توالى لفترتين متتاليتين، وتموقع عبر إقرار الحكم الذاتي لهم في أربيل- العراق منذ البداية.
ولكن الصحوة الأولى هي الأخطر والأعمق، لأبعادها الجيوسياسية والثقافية الممتدة، حيث تمثل في العراق أغلبية معتبرة، كما تمتد عبر أقطار عربية وإسلامية عديدة كذلك، وقد عبرت هذه الصحوة عن وجودها بالحضور الراسخ والفاعل في الشأن العراقي بقوة، كما امتد تأثيرها مع الدعم الإيراني المستمر- القائم على مبدأ تصدير الثورة- سياسيا وأيديولوجيا وثقافيا، وغدا من نافلة القول الحديث عن دور للحرس الثوري الإيراني في جنوب العراق ودعم وتدريب العديد من الأحزاب والقوى الشيعية في المنطقة.
"
أبرز تأثيرات الحرب على العراق هو خلخلتها توازن القوة المتوتر بين الشيعة والسنة، ليس فقط في العراق ولكن في المنطقة ككل، وهو ما تم التعبير عنه بتعبيرات من قبيل" المد أو الهلال الشيعي "أو" الصحوة الشيعية".

"
حسب فالي نصر فقد مثلت حرب العراق سنة 2003، الحلقة الأكثر أهمية في تاريخ الشيعة الحديث، بعد الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، سواء في دلالتها الإيجابية على الاستحقاق السياسي للشيعة في العراق، أو دلالتها السلبية في سقوط أكبر عدو للشيعة على مدار القرن العشرين، وهو ما تمثل في نظام صدام حسين.
فقد كانت أبرز تأثيرات هذه الحرب، خلخلتها توازن القوة المتوتر بين الشيعة والسنة، ليس فقط في العراق ولكن في المنطقة ككل، وهو ما تم التعبير عنه بتعبيرات من قبيل" المد أو الهلال الشيعي "أو" الصحوة الشيعية".
ففي العراق تراجع الدور السني داخله نحو الانحسار، وهو ما يمكن إرجاعه لإستراتيجية الولايات المتحدة البادئة بالتعاون مع كل من الشيعة والأكراد كأعداء تقليديين للنظام السابق، بينما كان الوجود السني- والتكريتي- متماهيا معه، فضلا عن تشرذم وعدم التنسيق بين القوى السنية، ورسوخ الدعم الإيراني وتأثيره على القوى والحركات الشيعية.
بجانب ما حدث في العراق كانت هناك- حسب المؤلف- فورة دعائية طائفية تستمد من التراث الشيعي لهبا يحاول التأثير على جمهور الطائفة، فتم استدعاء المهدية في خطب مرشد الثورة على خامنئي ورئيس الجمهورية الإيرانية محمود أحمدي نجاد في مواضع عديدة مبشرين باقتراب مخرجه وفرجه، كما وصف حسن نصر الله أمام بحر من رايات حزب الله الصفراء في 22 سبتمبر/أيلول 2006 حرب ال 34 يوما بأنها كانت" نصرا إلهيا"، رغم سابق إلحاحه بعد أيام من قيامها على ضرورة وقوفها وقبوله بوصفها مغامرة كما ذكر معارضو مبادرته بها(1).
توالت معالم هذه الصحوة الشيعية سياسيا كذلك في غير غلبة الإدارة الشيعية على الشأن العراقي، وتحكم الطائفة في مجرياته، في أشكال سياسية أخرى عبر تماهي كل من حكومة الفقيه الإيرانية، وصعود شعبية حزب الله التابع لها كممثل لخطاب الممانعة والمقاومة في الشارع العربي والإسلامي، خاصة بعد كل من حرب يوليو/تموز اللبنانية سنة 2006 وحرب غزة أواخر عام 2008، وهو ما لم يضعف منه سوى ثبوت اختراق الحزب لمصر عام 2009 واكتشاف نشاط آخر له في الإمارات في نفس العام، فضلا عن ازدياد توجس الجمهور السني من نشاطات التبشير الشيعي وتأجج الفضائيات الدينية المانعة والحاجزة والملتهبة بين الطرفين.
أدركت كثير من الدول العربية التي تضمم أقليات شيعية كبيرة أو معتبرة، خطر الصحوة الشيعية، بمعالمها وقسماتها المختلفة، وخاصة في دول الخليج شأن البحرين والكويت والسعودية، وهو ما زاد من أهميته انتعاش الديمغرافية السياسية الشيعية، وصعود فعلها وليس فقط مطلبيتها في العديد من بلدان المنطقة، وهو ما جعل العديد من الساسة العرب يتحدثون حول خطورة الهلال الشيعي أوائل ديسمبر/كانون الأول 2004، كما يشير خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في يناير/كانون الثاني 2006" واعون لحجم الانتشار الشيعي و أين وصل في مداه" بينما يؤكد الأمير الكويتي على غلبة السنة التاريخي والمستمر منذ قرون بقوله: "ان الانتشار الشيعي لن يحقق أهدافه لأن السنة محصنون ضد أي محاولة تقوم بها الطوائف الأخرى للاختراق أو لإنقاص من سلطتهم التاريخية"، كما حذر علماء سنة معروفون مثل القرضاوي من الاختراق الشيعي لبلاد السنة وهو ما لم يكن معروفا ولا مذكورا قبل عام 2003، ونجد في فلسطين المحتلة جماعة ليست تقاوم المحتل الإسرائيلي بل تصف نفسها بأنها "لجنة الدفاع عن أهل السنة" في وجه الرافضة، وهو النعت السجالي لدى السنة في وجه الشيعة، في مقابل وصف الأخيرين لهم بالنواصب أو العامة أحيانا أخرى(2).
لكن حتى اللحظة الراهنة لم نشاهد أي سيناريوهات بديلة أو سياسات واضحة للتعاطي مع هذه الصحوة بمعالمها وأحداثها المختلفة سياسيا أو اجتماعيا أو فكريا وخاصة في انحرافها للتشيع الإيراني السياسي والمرجعي دون التشيع العربي، ولمرجعية قم دون مرجعية النجف التي سعت سياسات الثورة الإيرانية وتوجهها لتعيين مرجعيات من قبلها لتهميش دورها فضلا عن انحساره في عهد النظام السابق.
ونرى أنه خلال العامين الأخيرين -وعقب صدور هذا الكتاب- انضمت العديد من البلدان الأخرى لقائمة استشعار الخطر من الصعود الشيعي، بعد رصدها للعديد من نشاطات التبشير الشيعي في بلاد كالمملكة المغربية ومصر والأردن والجزائر والسودان وهو ما رأته اختراقا شيعيا يؤثر على هويتها القومية والمجتمعية.
لما سبق تأتي أهمية كتاب "الصحوة الشيعية" الصادر عام 2006، والذي ألفه الدكتور فالي نصر(3) الأستاذ بالمدرسة العليا البحرية، والزميل في مجلس العلاقات الخارجية بالولايات المتحدة، استكشاف ملامح الصحوة الشيعية وتأثيرها على تغير أوضاع الشيعة في المنطقة، وتركز أيضاً على الدور والنفوذ القوي لإيران داخل العراق، الذي تراءى مؤخرا، في 29 سبتمبر/أيلول 2010، في تأثيرها على التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر، المقيم على أراضيها، في القبول بترشيح نوري المالكي رئيسا للحكومة في العراق، بعد طول تمنع منه وهو ما ساعد المالكي على رئاسة الحكومة رغم امتعاض الجميع، وهو ما تزامن مع نشر موقع ويكيليكس لوثائق عديدة تتهمه شخصيا وإدارته السابقة بالتورط في أعمال عنفي طائفي مجرم.
وبرأينا أن أطروحة فالي نصر حول الصحوة الشيعية لتدريسه وتمريره وربما -كما نرى- تسويقه للتقريب بين إيران كمركز رئيسي في الدائرة الشيعية والعامل الرئيسي فيها من جهة وبين الولايات المتحدة والغرب من جهة أخرى.
"
يؤكد المؤلف على إخلال السياسة الأمريكية بالتوازن الطائفي في العراق، عن طريق مساعدتها على إحياء وانطلاق شيعي واسع، وهو ما سينعكس أثره في المنطقة ككل

"
بعد أن بدأ فالي نصر كتابه بتمهيد تاريخي محاولا فيه تفسير تكون الشيعة تاريخا وأصولا في التاريخ العربي الإسلامي، وتحديد الميول والنزعات السياسية والثقافية لها، كأقلية كبيرة، في العالم العربي والإسلامي، يفسر صحوتها الأخيرة بعد حرب العراق ويردها للسياسة الأمريكية في المنطقة، بشكل كبير، وهو ما يعبر عنه بقوله: "مع انهيار نظام صدام حسين في العراق شجعت إدارة بوش وساعدت على انطلاق وتقوية الأغلبية الشيعية في العراق بشكل واسع قد يخل بالتوازن الطائفي في العراق وفي منطقة الشرق الأوسط لسنوات طويلة قادمة، هذا التطور أثار قلق بعض الحكومات العربية السنية، ولكن هذا التطور قد يمثل فرصة لواشنطن لبناء جسور وعلاقات قوية مع الشيعة في المنطقة خاصة في إيران".
ويؤكد المؤلف على التغييرات التي أحدثتها حرب العراق في المنطقة ونتائجها غير المتوقعة بالنسبة للولايات المتحدة، بقوله:  ساهمت حرب العراق في إحداث تغييرات كبيرة في الشرق الأوسط، رغم أن هذه التغيرات لم تكن بالشكل الذي توقعته الولايات المتحدة، فعندما أسقطت الحكومة الأمريكية نظام صدام حسين عام 2003، اعتقدت أن تغيير النظام سوف يساهم في جلب الديمقراطية للعراق وبالتالي لباقي دول المنطقة".
وهو ما يفسره فالي نصر برده إلى سوء إدراك إدارة بوش للمسألة السياسية حيث إنها نظرت إلى السياسة بمعايير مختلفة، عن تكونها في وعي الشعوب العربية والمسلمة، وهو ما يحدده بقوله: "نظرت إدارة بوش إلى السياسة على أساس العلاقات بين الأفراد والدولة، ولكنها فشلت في إدراك أن الشعوب في منطقة الشرق الأوسط تنظر للسياسة أيضاً كميزان للقوى بين الجماعات المختلفة داخل الدول. ولهذا بدلاً من أن يكون سقوط نظام صدام حسين فرصة لبناء ديمقراطية تحررية في العراق، وجد العديد من العراقيين في سقوط النظام البعثي فرصة للقضاء على الظلم في توزيع القوى بين الجماعات المختلفة داخل العراق".
ويؤكد المؤلف على إخلال السياسة الأمريكية بالتوازن الطائفي في العراق، عن طريق مساعدتها على إحياء وانطلاق شيعي واسع، وهو ما سينعكس أثره في المنطقة ككل حسب الكاتب.
يؤكد المؤلف على أمر يلح على وضعه في الاعتبار، وهو "عدم وجود قيادة موحدة للشيعة في المنطقة، رغم اشتراك تنوعاتهم في وجهة نظر دينية متماسكة" وهو ما نتحفظ على الجزء الأخير فيه حيث إن هناك مدارس شيعية متعددة في المنطقة تختلف وتتعارض مع بعضها في كثير من الأساسيات وهناك حركة لتشيع عربي منفصل ومستقل عن التشيع الإيراني وعن مرجعياته ومنظوره للولي الفقيه بالخصوص.
وعن الحجم الحالي للشيعة يذكر المؤلف نصر أنهم اليوم يمثلون "رقماً انتخابياً قوياً، والدليل على هذا أن الشيعة يمثلون 90% من الإيرانيين، حوالي 70% من الذين يعيشون في منطقة الخليج (الفارسي)، وتقريباً 50% من الذي يعيشون بصفة إجمالية حوالي 140 مليون شخص. وقد ظل الكثير منهم مهمشاً لفترة طويلة، ولهذا فهم يطالبون بحقوق أكثر ووضع سياسي أفضل" وهي إحصاءات لا شك يمكن مناقشتها حيث إن الكاتب -على ما يبدو- اعتمد على المصادر الإيرانية الرسمية والشيعية بالخصوص، دون غيرها التي تختلف أرقامها عن الأرقام الواردة في كتاب فالي نصر.
"
صعود الشيعة العراقيين إلى السلطة قد أعاد وأحيى الأمل لدى الشيعة في كافة أنحاء المنطقة، وهو ما آثار قلق السنة في المنطقة. الأمر الذي قد ينذر بصراع من أجل السلطة بين المجموعتين قد يهدد استقرار المنطقة

"
أما عن تأثير ما استجد على أوضاع الشيعة في العراق على الشيعة في سائر أنحاء المنطقة، فيبدو أن تلك الأوضاع "قد ساهمت في تعبئة شيعة المملكة العربية السعودية (حوالي 10%م السكان)" ويمثل الكاتب بأنه في انتخابات البلدية في السعودية عام 2005 شهدت المناطق ذات الأغلبية الشيعية إقبالاً ملحوظاً، وقام حسن الصفار زعيم الشيعة في السعودية بتشجيع الشيعة على التوجه لصناديق التصويت وذلك مثلما حدث في العراق من قبل السيستاني، والعمل على الاستفادة قدر الإمكان من قاعدة المشاركة في الانتخابات.
وحسب المؤلف فإن تأثير ما حدث للشيعة في العراق قد انسحب كذلك إلى المناطق الأخرى، فحسب القاعدة السحرية التي استخدمها الشيعة في العراق والتي تنص على "رجل واحد، صوت واحد" استفاد منها الشيعة في لبنان (الذين يبلغون حوالي 45% من السكان) وهو ما توقع المؤلف تكرار حدوثه مع الشيعة في البحرين (الذين يمثلون 75% من السكان)، ولكنه لم يحدث بنفس الدرجة، وكان ذلك بعد صدور الكتاب.
ومن التأثيرات المهمة لعملية تحرير العراق أنها أوجدت حسب المؤلف "روابط سياسية واقتصادية وثقافية جديدة بين الجاليات الشيعية في الشرق الأوسط" كان من أهم مظاهرها نشاط حركة الحجاج الشيعة إلى النجف، والمدن الشيعية المقدسة الأخرى في العراق، كما زادت وظهرت العديد من مظاهر الصعود الشيعي في الدول الخليجية، فتم تعليق صور علي خامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، ورجل الدين اللبناني الراحل والزعيم الروحي لحزب الله اللبناني السيد حسين فضل الله في كل مكان في البحرين، كما أصبح رجال الدين الشيعة في هذه الدول أصبحوا أكثر حرية وجرأة في الوقت الحاضر في ممارسة شعائرهم الدينية".
وربما يكفي القول هنا إن صعود الشيعة العراقيين إلى السلطة قد أعاد وأحيى الأمل لدى الشيعة في كافة أنحاء المنطقة، وهو ما آثار قلق السنة في المنطقة. الأمر الذي قد ينذر بصراع من أجل السلطة بين المجموعتين قد يهدد استقرار المنطقة.
ويشير المؤلف نصر إلى تحذير "الملك عبد الله ملك الأردن من تكوين (هلال شيعي جديد) يمتد من بيروت إلى طهران قد ينهي سيطرة الغالبية السنية المسيطرة في المنطقة" وهو المصطلح الذي استخدمه في حوار له مع جريدة الواشنطن بوست الأمريكية أوائل شهر ديسمبر/كانون الأول 2004.
ويتوقع أن يمثل هذا التوتر بين الصعود الشيعي والقلق السني المشهد في المنطقة في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، حيث يرى المؤلف نصر أن"استئصال السياسات الطائفية المعادية قد يساهم في ترضية الشيعة بشكل كبير، ولكنه سيزيد من قلق السنة في كافة أنحاء المنطقة. هذا التوازن الحساس سيلعب دوراً مركزياً في السياسة الشرق أوسطية في العقد التالي، كما سيعيد تعريف علاقات المنطقة أيضاً بالولايات المتحدة والدول الأخرى مثل البحرين، لبنان، المملكة العربية السعودية، ومناطق أخرى في الخليج (الفارسي)".
لا يرى المؤلف فالي نصر في هذه الصحوة الشيعية أي خطر على الولايات المتحدة،، رغم وجود رموز شيعية مقاومة للنفوذ والسياسة الأمريكية في المنطقة، بل يرى إن هذه الصحوة الشيعية واستثمار الولايات المتحدة لها قد يمثل الإنجاز الحقيقي لحرب العراق، وحسب تعبير المؤلف نصر فإن هذه الصحوة الشيعية " ليس من الضروري أن يمثل أو يكون مصدر قلق للولايات المتحدة، وذلك رغم أن هذا الصعود قد أثر على مكانة بعض الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط" ثم يضيف إن "هذا التطور الجديد يمثل فرصة أمام واشنطن لزيادة اهتمامها بمصالحها في المنطقة وإعادة بناء جسور العلاقات مع شيعة المنطقة، الأمر الذي قد يمثل الإنجاز الحقيقي لتدخل الولايات المتحدة في العراق" وهنا يتجلى التحيز ورافد الطرح حول الصحوة الشيعية أمريكيا كما يمثله هذا الكتاب.
ويلوح المؤلف بأهمية الدور الإيراني في هذا الصدد، حيث يمثل هذا الدور شرطا لنجاح هذه المهمة وهذا الإنجاز، فإيران هي"الدولة التي تضم أكبر نسبة للشيعة في العالم والتي أصبحت قوة إقليمية هامة، ولديها قدرة على التأثير على شيعة المنطقة خاصة في العراق".
ورغم خطورة قضية الملف النووي الإيراني على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، إلا أنه يأخذ إمكانية التوافق والاتفاق بين الطرفين إلى منطقة أخرى، وهي مناقشة ملف مستقبل الشيعة بالعالم دون تمركز حول هذه القضايا السابقة، وهو ما يعبر عنه المؤلف نصر بقوله: "وتنحصر العلاقات الأمريكية/الإيرانية في التمركز حول بعض القضايا مثل المسألة النووية، والخطابات الدعائية الصادرة من إيران، ولكن على خلفية حرب العراق ونتائجها قد تظهر قضايا أخرى مثل المستقبل السياسي للشيعة في المنطقة".
"
قامت إيران ببناء شبكة رائعة من الحلفاء والعملاء داخل العراق، وتراوحت هذه الشبكة بين موظفي استخبارات، وجيوش شعبية مسلحة

"
يؤكد المؤلف نصر على أهمية الاتفاق أو التفاوض الإيراني الأمريكي، بسرده للدور والعمق الإيراني في العراق، سواء قبل الحرب أو بعدها، فمنذ عام 2003 لعبت إيران دوراً بناءً في العراق، حيث كانت الدولة الأولى في المنطقة التي تقوم بإرسال وفد رسمي إلى بغداد لإجراء محادثات مع مجلس الحكم العراقي وذلك للتعرف على السلطة الجديدة التي وضعتها الولايات المتحدة في العراق. وقد عرضت إيران الدعم المالي على العراق، كما عرضت المساعدة لإعادة بناء البنية والطاقة والكهرباء في العراق. وبعد أن قام رئيس الوزراء العراقي السابق إبراهيم الجعفري بتشكيل حكومة انتقالية في بغداد في إبريل/نيسان 2005 زارت وفود عراقية رفيعة المستوى طهران، وتم التوصل لبعض الاتفاقيات مع إيران، وتم التفاوض على تقديم بليون دولار كمساعدات إيرانية للعراق وبعض الصفقات التجارية مثل تصدير الكهرباء وتبادل النفط العراقي الخام.
كما يشير المؤلف إلى تأثير إيران غير الرسمي والذي يبدو أكثر وضوحا منذ الحرب، حيث "قامت إيران ببناء شبكة رائعة من الحلفاء والعملاء، وتراوحت هذه الشبكة بين موظفي استخبارات، وجيوش شعبية مسلحة"
كما يشير المؤلف إلى جانب آخر من التأثير الإيراني الواضح عن طريق علاقاتها القوية التي تربطها بمختلف القوى السياسية الشيعية في لبنان، وهو ما يمثل عليه بقوله: "معظم كوادر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وحزب الدعوة (بما في ذلك رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري، ورئيس الوزراء الحالي نوري المالكي) معظم هذه الكوادر أمضت وقتاً طويلاً في المنفى في إيران قبل العودة للعراق عام 2003، أيضاً تلقت العديد من المنظمات الشيعية العراقية تدريبها على يد الحرس الثوري الإيراني مثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية العراق" ويؤكد على هذه العلاقة حتى فيما يخص الزعيم مقتدى الصدر وجيش المهدي، رغم أن مقتدى الصدر في وقت سابق كان يكيل الخطب المعادية لإيران وللحكومة فيها.
فيذكر المؤلف "أن إيران وخاصة قوات الحرس الثوري بتقديم الدعم لجيش المهدي في مواجهته مع القوات الأمريكية في النجف عام 2004". ويشير إلى دور إيران في العملية السياسية العراقية، حيث قامت بتمويل بعض الأطراف الشيعية هناك أثناء الانتخابات، كما كانت هي الوسيط في الاتفاق بين الشيعة والأكرادّ، ورغم أن هذه المظاهر تؤكد على عمق التأثير الإيراني، إلا أنها في نفس الوقت- حسب المؤلف نصر- كانت أسباب الاختلاف بين الولايات المتحدة وبين إيران، حيث توجه واشنطن اتهامات لطهران بدعم المتمردين، والعصابات الإجرامية والميليشيات الشعبية في العراق، كما تتهم واشنطن طهران بتسميم الرأي العام العراقي وتشجيعه على معاداة الولايات المتحدة.
ويشير المؤلف نصر إلى أن واشنطن قد أخفقت في"توقع تأثير إيران في العراق، حيث أساءت فهم تعقد العلاقات لمدة طويلة بين البلدين" فهي لم تفهم عمق العلاقات بين البلدين وعمق التأثير في الآن نفسه، رغم أن العلاقات بين البلدين كانت معقدة ومتوترة بسبب الحرب في فترة الثمانينيات، حيث كان هناك عدد كبير من الشيعة العراقيين في الجيش العراقي الذي تصدى للهجمات الإيرانية على الأراضي العراقية. ورغم كل هذا لم يقسم تراث الحرب الشيعة الإيرانيين والعراقيين كما اعتقدت الولايات المتحدة. إلا أنه يؤكد أن " الشيعة العراقيين يبدون قلقاً متزايداً تجاه هيمنة السنة أكثر من تأثير طهران في بغداد" .
ومن الروابط التي يذكرها المؤلف روابط أجاءت كنتيجة لموجات الهجرة الشيعية المتعددة،. ففي أوائل السبعينيات وفي محاولة منه لتعريب العراق قام صدام حسين بطرد عشرات الآلاف من الشيعة العراقيين ذوي الأصول الإيرانية والذين استقروا في دبي، الكويت، لبنان، سوريا، والجزء الأكبر منهم في إيران. وبعض اللاجئين العراقيين أصبحوا فيما بعد رجال دين كبارا وقادة في الحرس الثوري، وأبرز مثال على ذلك هو آية الله محمد علي تسخيري الذي يعمل مستشاراً لخامنئي، وعميد كلية حقاني في قم، وقد عاد تسخيري سريعاً إلى النجف في عام 2004 للإشراف على عمل مؤسسة آل البيت والتي تستثمر عشرات الملايين من الدولارات في مشاريع البناء في جنوب العراق وتروج لروابط ثقافية بين العراق وإيران. ويمارس تسخيري تأثيراً كبيراً على سياسة الحكومة نحو العراق وإيران.
على مدار الثمانينيات وبعد المذابح المعادية للشيعة عام 1991، لجأ حوالي مائة ألف شيعي عراقي إلي إيران. وفي السنوات المظلمة من التسعينيات مثلت إيران مأوى مهماً لشيعة العراق. وبعد الحرب على العراق عاد معظم هؤلاء إلى العراق ووجدوا أعمالا في المدارس، ومراكز الشرطة المساجد، الأسواق، المحاكم، الجيوش الشعبية، والمجالس العشائرية من بغداد إلى البصرة، وكذلك في الحكومة. وقد أدى التنقل المتكرر للشيعة بين إيران والعراق على مر السنين إلى خلق ارتباطات وثيقة بين البلدين.
وتمتاز الروابط الدينية بين البلدين بأنها قوية، فالمنفيون العراقيون في إيران انجذبوا بشكل كبير تجاه آيات الله العراقيين مثل محمود شاهرودي (رئيس السلطة القضائية)، كاظم الحائري، ومحمد باقر الحكيم (زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الذي قتل عام 2003) وهو الذي أشرف على تأسيس المنظمات الدينية العراقية في طهران وقم، وأحدثت تلك المنظمات تأثيراً كبيراً في إيران منذ الثمانينيات.
وكذلك انضم العديد من رجال الدين الكبار وخريجي الكليات الشيعية العراقية في إيران إلى مؤسسات إيران السياسية وأصبح عدد كبير منهم قريب الصلة بخامنئي. وهؤلاء الرجال العراقيون عادوا لبلادهم عام 2003 للسيطرة على المساجد والكليات المختلفة وبالتالي ساهموا في خلق محور مهم للتعاون بين قم والنجف.
ومما ساء توقعه لدى الأمريكيين، كما يذكر المؤلف تصور الكثيرين في الولايات المتحدة، أنه عندما يتم تحرير العراق، فإن مدينة النجف سوف تنافس قم وتتحدى آيات الله الإيرانيين، ويؤكد نصر أنه "منذ عام 2003 والمدينتان تتعاونان وليس هناك شقة مذهبية واضحة بينهما، أو أي نزوح جماعي لمنشقين من مدينة لأخرى" ويدلل نصر على ذلك بأن الموقع الإلكتروني لآية الله على السيستاني (w w w .sistani.org) مقره قم، وأغلب الضرائب الدينية التي تجمع بواسطة مندوبية تجمع من إيران.
وهو ما زاد بعد انفتاح الشيعة وفتح المدن المقدسة والمزارات الشيعية في العراق ثانية بعد سقوط قبضة النظام البعثي السابق، حيث سافر مئات الآلاف من الإيرانيين بزيارة المدن المقدسة مثل النجف وكربلاء. في ظل توجه الشباب الإيراني لنمط المتدين الطقوسي المهتم بالعبادات طيلة العقد الماضي، وعدم اهتمامه فقط بالتسييس.
ويعرف العديد من الإيرانيين السيستاني باعتباره زعيمهم الديني الآن أكثر من الفترة التي سبقت عام 2003 والكثير منهم يوجهون الأموال إليه، ورغم أنه يتهكم بشكل كبير على زعمائهم الدينيين، إلا أن عدداً كبيراً من الإيرانيين يحاول حالياً إحياء الهوية والثقافة الشيعية في العراق.
ومن العوامل التي زادت من عمق العلاقة والاتصال بإيران لدى الشيعة العراقيين، العامل الاقتصادي حيث يذكر نصر أن" الحجاج الإيرانيون الذين يتوجهون للفنادق والأسواق في النجف وكربلاء يجلبون معهم استثمارات للعراق، حيث يمكن رؤية السلع والمنتجات الإيرانية الآن في كل مكان عبر وجنوب العراق، وبلدة ميهران الحدودية تعتبر من أكبر نقاط دخول السلع للعراق" ويضيف أن" الدليل على أن حجم التجارة بين البلدين وصل إلى بليون دولار، وتخلق هذه الروابط التجارية بين الإيرانيين خصوصاً التجار (البازار) مصلحة شخصية في ضرورة استقرار جنوب العراق" .
ومن الآثار غير المرئية لهذه الروابط العميقة ازدياد فهم كل من الإيرانيين والعراقيين الشيعة، وتوافقهما على أنهم يواجهون تهديداً مشتركاً من السنة. ويبدو أنه لا يوجد شيء ساهم في زيادة التقارب بين شيعة العراق مع إيران سوى الشراسة التي كان عليها التمرد السني، بالإضافة إلى اهتزاز ثقة الشيعة في العراق بالولايات المتحدة خاصة عندما دعت إلى حل الميليشيات الشعبية، وتقديم مزيد من التنازلات للسنة للدخول في إطار العملية السياسية.
وقد أورد نصر في كتابه نسبا تفصيلية لعدد الشيعة في المنطقة، يوضحها الجدول التالي(4):
الدولة
نسبة الشيعة من إجمالي عدد السكان
عدد السكان
عدد الشيعة
إيران
90%
67.7مليون نسمة
61.8مليون
باكستان
20%
165.8مليون نسمة
33.2 مليون
العراق
65%
26.8مليون نسمة
17.4مليون
الهند
1%
مليار ومائة مليون نسمة
11.00مليوناً
أذربيجان
75%
8ملايين نسمة
6 ملايين
أفغانستان
 19%
31.1 مليون نسمة
 5.9 مليون
السعودية
10%
27.0 مليون نسمة
2.7 مليون
لبنان
45%
3.9 مليون نسمة
1.7 مليون
الكويت
30%
 2.4 مليون نسمة
730ألف نسمة
البحرين
75%
700 ألف نسمة
520ألف نسمة
سوريا
1%
18.9 مليون نسمة
190ألف نسمة
الإمارات
6%
2.6 مليون نسمة
160ألف نسمة
قطر
16%
890 ألف نسمة
140ألف نسمة
"
يسعى زعماء وقادة طهران إلى خلق وإيجاد منطقة أكبر للتأثير والنفوذ الإيراني ربما تكون مشابهة أو قريبة من المفهوم الروسي حول المجال القريب

"
وعن المخاوف السنية ذكر المؤلف نصر في كتابه، أنه قبل خمس سنوات كانت إيران محاطة ومحاصرة، بحائط من الأنظمة السنية العدائية، العراق والمملكة العربية السعودية في الغرب، باكستان وأفغانستان تحت حكم طالبان في الشرق.
ولكن بعد حرب العراق انهار الحائط السني، وصارت الصحوة الشيعية تمثل حائط صد ووقاية ضد عودة هيمنة السنة للهيمنة على المنطقة، خاصة وأن العراق الذي صارت تحكمه الشيعة لأول مرة في القرن العشرين، ظل يمثل حسب المؤلف نصر" الشغل الشاغل للسياسة الخارجية الإيرانية طوال الخمسة عقود الماضية منذ أن سقط النظام الملكي في العراق وسيطرت عليه نزعة القومية العربية عام 1985. وقامت العراق في عهد صدام حسين بتهديد الجمهورية الإسلامية، واستمرت الحرب العراقية ـ الإيرانية خلال العقد الأول من ثورة آية الله الخميني، حيث دمرت هذه الحرب اقتصاد إيران وتركت أثاراً سلبية هائلة على الأوضاع الإيرانية الاجتماعية في إيران".
وعن الإستراتيجية الإيرانية في العراق اليوم، يذكر المؤلف نصر أنها تقوم "على هدف أساسي وهو ضمان عدم عودة العراق كمهدد لإيران، ويأتي هذا الهدف على رأس أولويات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ومعظم قيادات الحرس الثوري، حيث يرون أن هدوء العراق يعد هدفاً استراتيجياً مهما لإيران، ويرون بأن العراق تحت القيادة الشيعية سيكون أكثر أماناً لهم وذلك على اعتبار أن الدول الشيعية لا تحارب بعضها البعض".
كل هذا يمثل جزءاً صغيراً من مخاوف السنة التي تتركز نتائج تطلعات إيران الإيديولوجية في الثمانينيات والمخاوف الحالية من الطموحات الإقليمية الجديدة لإيران، والتي يمكن أن تمثل على منطقة الخليج.
ويمثل المؤلف نصر على الخطر الإيراني السابق، والذي كان يمثل مبرر مخاوف الدول والقوى السنية من الصعود الشيعي بعد حرب العراق، بأنه " خلال الربع قرن الماضي قدمت إيران الدعم للعديد من القوى الشيعية والميليشيات الشيعية، وأعمال التمرد في البحرين، العراق، الكويت، لبنان، باكستان، والمملكة العربية السعودية" . وعن المخاوف الغربية يذكر نصر أنه " قد عملت الثورة الإيرانية على التأسيس لهوية شيعية معادية للغرب الأمر الذي انعكس في أزمة الرهائن عام 1979، وقصف الثكنات البحرية الأمريكية في بيروت عام 1983، ودعم طهران المستمر للإرهاب الدولي. وفي النهاية أخفقت الثورة الإيرانية في الوصول لأهدافها، وما عدا لبنان كان الصعود الشيعي في هذه الدول تافها".
يبدو أن أكثر المستفيدين من الصعود الشيعي في العراق والصحوة الشيعية عموما، ليس هم الشيعة العراقيون فقط، ولكن الجمهورية الإسلامية في غيران، التي أصبحت ترى نفسها حسب المؤلف" قوة إقليمية ومركزاً للحضارة الفارسية إلى آسيا الوسطى، فقد تخلصت إيران من خطر طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق، وهي تعتلي الآن قمة موجة الإحياء الشيعي، وتواصل السعي في سبيل تحقيق طموحاتها النووية وتطالب بشدة باعتراف دولي بمصالحها في المنطقة" .
ويزيد المؤلف نصر في توضيح هذه الإستراتيجية الإيرانية بقوله: "يسعى زعماء وقادة طهران إلى خلق وإيجاد منطقة أكبر للتأثير والنفوذ الإيراني ربما تكون مشابهة أو قريبة من المفهوم الروسي حول المجال القريب".
ويرى المؤلف نصر أن الإستراتيجية الإيرانية تقف عند التأثير ولا تمتد إلى الهيمنة على جنوب العراق كما كان حلم الخميني، وهو ما يعبر عنه بقوله: " وتقوم وجهة نظر طهران على أن جنوب العراق ربما يكون مجالاً مناسباً لإظهار قوة ومكانة إيران في المنطقة، ورغم ذلك لا يوجد أحد يتمسك بحلم الخميني بهيمنة وسيادة الشيعة على العراق، بمعنى آخر ينحصر هدف طهران في جنوب العراق في ممارسة نوع من التأثير السياسي والثقافي والاقتصادي الذي قامت به إيران في غرب أفغانستان منذ التسعينيات". وبالرغم من أن إيران تسعى للقيام بدور هام وحيوي في العراق إلا أنها قد لا تهدف أو لا تكون قادرة على تحويل العراق إلى جمهورية إسلامية أخرى".
وعن العلاقات الإيرانية بالمنطقة وهذه الإستراتيجية النافذة والمصرة على التأثير، يرى المؤلف نصر وجهها السلبي على المنطقة، وهو ما يعبر عنه بقوله:" إن تعقد علاقات إيران مع الجماعات الطائفية في المنطقة، استغلتها الحكومات السنية في المنطقة وطموحات طهران كعذر لمقاومة مطالب مواطنيها من الشيعة، وتجاهل نداءات واشنطن للإصلاح السياسي".
ويذكر الكتاب أنه منذ عام 2002 وجه الزعماء السنة في مصر، الأردن، والمملكة العربية السعودية اللوم المتكرر لإيران على الفوضى في العراق، وحذرت بأن إيران قد تمارس تأثيراً كبيراً في المنطقة إذا ما وصل الشيعة العراقيون للسلطة في بغداد. الرئيس مبارك قام بدق جرس الإنذار في أبريل الماضي حينما صرح قائلاً "أن الشيعة موالون دائماً لإيران وليس للدول التي يعيشون فيها" مثل هذه التصريحات قد تسمح لبعض القادة في المنطقة في تحويل الانتباه بعيداً عن مسئولياتهم الخاصة بالمشكلات التي تعاني منها دولهم، كما تعطي هذه الأمور أيضاً ذريعة أمام هذه الدول لمقاومة دعوة الولايات المتحدة للإصلاح السياسي في الداخل. حيث أرادت هذه الدول أن توجه رسالة للولايات المتحدة بأن جلب الديمقراطية للمنطقة سيشجع على زيادة نفوذ وقوة إيران والشيعة، ولهذا فمن الأفضل لواشنطن أن تتمسك بالدكتاتوريات السنية.
ولكن ماذا تحتاج إيران من جيرانها، يرى نصر أنها لا زالت تحتاجهم، وبقوة، وذلك" لمقاومة الضغط الدولي على برنامجها النووي وحتى الآن تعمل إيران على تهدئة النزاعات الطائفية، وعدم إثارة عداء السنة بشكل كبير، وبدلاً من هذا تعمل على تصعيد التوترات بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل. ولهذا يوجه القادة الإيرانيون اللوم للعنف الطائفي الدائم في العراق".
ويأتي الخطاب الإيراني في هذا السياق مصرا على التقريب بين السنة والشيعة بشكل كبير، فقد ألقت طهران مثلا بمسئولية الهجوم على ضريح الإمام (العسكري) في سامراء في فبراير الماضي على "وكلاء الصهيونية" وذلك بهدف تقسيم المسلمين وفي نفس الوقت تواصل إيران جهودها في برنامجها النووي لتأكيد مكانتها وقوتها الإقليمية، دونما إلحاح على لغة طائفية يلتزم العديد من حلفائها وأعدائها في الآن نفسه.
"
سوف تسعى إيران بشكل نشيط إلى تحقيق الاستقرار في العراق عندما يكون هذا الاستقرار لصالحها، ولن تقوم إيران بهذا إلا عندما تشعر أن الولايات المتحدة لم تعد تشكل تهديداً بالنسبة لها

"
يرى المؤلف أن الطموحات الإيرانية تركت واشنطن وطهران في وضع معقد، وفي مواجهة حادة بالطبع، فبينما استفادت إيران بالفعل من الخطوات التي قامت بها الولايات المتحدة لتغيير الأنظمة في كابول وبغداد، لكن واشنطن يمكن أن تعيق أو تمنع إيران من الاستفادة بشكل كامل من الأوضاع الجديدة في أفغانستان والعراق، فالوجود العسكري الأمريكي المكثف في المنطقة يهدد هذه الجمهورية الإسلامية. وتبدو الأهداف الأمريكية والإيرانية متناقضة أو مختلفة على المدى القصير خاصة في العراق فإذا كانت واشنطن تسعى إلى الخروج من حالة الفوضى التي تعيشها داخل العراق فإن طهران سعيدة بهذا الوضع الحرج الذي عليه الولايات المتحدة في العراق. حتى الآن تفضل طهران سياسة الفوضى المسيطرة على العراق، وذلك كوسيلة هامة لإبقاء تعثر الحكومة الأمريكية وتقليل حماسها بخصوص مسألة تغيير النظام في إيران.
ولكن دور إيران في العراق يختلف عن دورها في أفغانستان، فبينما تعاونت طهران مع واشنطن بشكل كبير لعودة الاستقرار لكابول وتنصيب حكومة حامد فرضاي والسبب في هذا أن استقرار الأوضاع كان لمصلحة إيران التي كانت تحتاج في هذا الوقت بشكل كبير إلى وجود عملاء لها في أفغانستان من الفرس والشيعة لحماية مصالح إيران داخل أفغانستان. ولكن حسابات طهران اختلفت في الحالة العراقية، فطهران لم تسع مثلما كان الوضع في أفغانستان إلى وجود عملاء لها لحماية مصالحها وذلك لأن لطهران وجوداً في العراق أقوى من الوجود الأمريكي نفسه، وذلك بفضل الأغلبية الشيعية العراقية حسب تصور المؤلف نصر.
وبهذا يرى نصر أنه "ثبت أن رؤية الرئيس بوش لحرب العراق كانت خاطئة، حيث تصور أنها ستكون طريقاً غير مباشراً لتغيير الزعماء ورجال الدين في إيران وأنها ستكون عاملاً مؤثراً في زيادة الضغط على إيران بخصوص برنامجها النووي، ويضيف أن قد صار من "البين للجميع الآن أن إيران أصبحت أقوى نسبة إلى الولايات المتحدة عما كانت عليه عشية حرب العراق".
ولكن يتوقع نصر في كتابه أنه على المدى الطويل ربما تتلاقى المصالح الأمريكية والإيرانية في العراق. فكلتا الدولتين تريدان استقراراً في العراق على المدى الطويل، بالنسبة لواشنطن فهي تريد خروجاً مشرفاً لها من العراق، أما طهران فالاستقرار في العراق على المدى الطويل يضمن لها موقعاً مميزاً في كافة أنحاء المنطقة. وإيران بالطبع لديها مخاوف عديدة من نشوب حرب أهلية في العراق، لأن القتال في العراق قد يستقطب كافة دول المنطقة بما فيها إيران، بالإضافة إلى إمكانية انسحاب القتال إلى الأقليات والعرقيات داخل إيران مثل العرب والبلوش، والمناطق الكردية الإيرانية، وكما حذر بهذا نائب وزير الخارجية الإيراني السابق عباس مالكي في تعليقه على أعمال العنف والفوضى في العراق بقوله: "الفوضى في العراق ليست في صالح إيران، إذا كان بيت جارك يحترق فهذا يعني أن بيتك في خطر". وحذر أيضاً من أن إيران قد وضعت نفسها في العديد من المشكلات لأنها تقوم بتعيين غالبية حكام الأقاليم من رجال الحرس الثوري.
وعن دور متوقع أو منتظر في التقريب بين وجهات النظر الإيرانية والأمريكية، من القوى الشيعية في العراق وإيران ، يشير المؤلف نصر إلى مجموعتين هما على الترتيب:
المجموعة الأولى: هم اللاجئون العراقيون الذين يشكلون لوبي للدفاع عن المصالح الشيعية العراقية في طهران، وقد شجعوا الحكومة الإيرانية على السير في طريق المحادثات مع الولايات المتحدة.
ويرى هذا اللوبي أن تصعيد التوترات والمشكلات بين الحكومتين لا يخدم مصالح شيعة العراق، اللوبي لا يريد أن يرى العراق رهينة للمواجهة الدولية على البرنامج النووي الإيراني.
أما المجموعة الثانية: فتتكون من العديد من الإيرانيين الذي يبدون قلقهم بخصوص الأماكن الشيعية والمدن المقدسة بالعراق، ويرون أن في وجود تنسيق بين القيادتين الأمريكية والإيرانية من شأنه أن يوفر الأمن لهذه المدن المقدسة.
ورغم كل هذا فإن إيران سوف تسعى بشكل نشيط إلى تحقيق الاستقرار في العراق عندما يكون هذا الاستقرار لصالحها، ولن تقوم إيران بهذا إلا عندما تشعر أن الولايات المتحدة لم تعد تشكل تهديداً بالنسبة لها.
"
يقدم العنف الطائفي الواسع الانتشار الآن في العراق رسائل تذكير مشئومة عن الذي حدث في الهند قبل حوالي 60 عاماً، وربما يكون أسوأ منها ما يحدث في العراق فالحالة العراقية تتدهور بشكل كبير الأمر الذي قد يترك تداعياته على الشرق الأوسط بالكامل وانتقال هذا النزاع الطائفي إلى الشيعة والسنة في باقي الدول

"
يرى المؤلف أن الولايات المتحدة للوصول تسعى لاتفاق يساعد على انخراط السنة في إطار العملية السياسية وذلك بهدف إضعاف التمرد السني، لكنه يرى أن "فرص هذه الصفقة م ازالت مجهولة، فالشيعة والسنة والأكراد لا يتصور أن يقدموا أية تنازلات بدون ممارسة ضغوط عليهم من جانب الولايات المتحدة، كما أن الولايات المتحدة لا يمكنها إجبار أحد الأطراف على تقديم تنازلات وإرضاء أطراف أخرى دون مخاطرة عزل بعض الأطراف".
وفي حالة فشل المفاوضات بخصوص الدستور، فمن الممكن أن يقوم السنة بترك العملية السياسية، وحتى في حالة مشاركة السنة، فمن المتوقع أن يكون حجم أو مستوى المساومة مع الشيعة أكثر تعقيداً من خلال زيادة حجم الاضطرابات في جنوب العراق.
يؤكد نصر أنه "خلال السنوات الثلاث الماضية، كان عند الشيعة استعداد كبير للمشاركة في العملية السياسية ومقاومة استفزازات السنة وتمردهم، لأن الشيعة اعتقدوا بأن تأييد السياسة الأمريكية سوف يخدم مصالحهم". لكن يتوقع الكاتب أن الشيعة قد يغيرون تحالفهم مع السياسة الأمريكية متى وجدوا الولايات المتحدة أكثر ميلا للسنة، وحرصا على شراء تعاونهم على حساب الشيعة. وعن السلاح الذي سيستخدمونه في هذه المرحلة يقول المؤلف: "إن الشيعة ليسوا بحاجة إلى السلاح للضغط على الولايات المتحدة، وذلك استناداً إلى أعدادهم الكبيرة، فالشيعة قادرون من خلال استغلال تفوقهم العددي على تغيير التوازن السياسي في داخل العراق".
ويضرب على ذلك العديد من الأمثلة حيث نجح السيستاني في تعريف الأمريكيين بقوة الشيعة منذ وقت مبكر، وتحديدا منذ مظاهرات يناير/كانون الثاني 2004 التي دعا إليها، واحتشد لها مئات الآلاف من الشيعة لمدة خمسة أيام، احتجاجاً على الخطط الأمريكية الرامية إلى إسناد الانتخابات ما بعد صدام إلى نظام مؤتمر تحضيري. وقبل هذه المظاهرات دعا السيستاني حشود الشيعة إلى الاحتجاج على قصف ضريح الإمام العسكري.
يقول المؤلفك "كان هدف السيستاني من هذا كله هو أن تعي الحكومة الأمريكية القوة التي عليها التيار الشيعي في العراق"
وعما يمكن أن تقدمه إيران لتيارات الشيعة في العراق لدى الولايات المتحدة يذكر المؤلف أنها "سوف تسعى لمخاطبة قضايا أوسع في علاقاتها مع الولايات المتحدة، فطهران يمكن أن تنهي مسألة الدعم المالي والعسكري للميليشيات الشيعية المسلحة وباقي العصابات الإجرامية الأخرى في جنوب العراق في حالة تقديم الولايات المتحدة ضمانات أمنية أوسع لإيران" وهو ما لا نظن حدوثه في ظل تعقد وتصاعد مسألة الخلاف حول الملف النووي الإيراني؟
ويؤكد نصر أن "هناك إمكانية لتلاقي وتشابك المصالح الأمريكية والإيرانية ولكن الاختلاف أنه في الحالة العراقية تبدو المساومة أعلى وأكثر تعقيداً" فبعد سقوط نظام طالبان في أفغانستان عملت كل من الولايات المتحدة وإيران على دخول العملية السياسية في أفغانستان وتم عقد الصفقات اللازمة في إطار مؤتمر بون حول مستقبل أفغانستان بين إيران والولايات المتحدة وذلك لضمان النجاح المبكر لحامد قرضاي ونظامه في أفغانستان. وأظهر مؤتمر بون أن هناك بوادر لفتح فصل جديد في تاريخ العلاقات الإيرانية-الأمريكية، لكن في هذا الوقت كانت واشنطن تبدي اهتماماً أقل بمسألة العلاقات مع إيران، حيث كانت واشنطن تنظر لنظام طهران بأنه نظام ضعيف سوف يسقط قريباً، وبالتالي ضيعت واشنطن فرصة كبيرة كانت أمامها.
والآن تقدم مشكلات العراق الراهنة الفرصة لواشنطن وطهران مرة أخرى ليس فقط لتطبيع العلاقات بينهما ولكن أيضاً للعمل على وضع حد للتوترات المستقبلية بين الشيعة والسنة في العراق التي من المتوقع أن تنتقل للدول المجاورة، وبالرغم من أنه من غير المحتمل أن تقدم واشنطن وطهران بحل خلافاتهم في القضايا الرئيسية وعلى رأسها قضية الملف النووي الإيراني في وقت قريب. إلا أنه من الممكن أن تساهم في تهدئة الأوضاع هناك، مثل تحسين الأمن في جنوب العراق، وحل الميليشيات الشيعية، وإقناع الأطراف الشيعية بتقديم بعض التنازلات.
لكن تظل الخطورة قائمة، وهو ما يؤكد عليه المؤلف في كتابه، وهو عدم قدرة كل من الإيرانيين والأمريكيين على إيجاد أرضية مشتركة، بينهما وهو الماثل حتى الآن, وهو ما قد يدخل العراق في دائرة عنف أوسع بجانب تطور إلى حرب أهلية كاملة، وعندما ينهار العراق سوف يتحول بعد ذلك إلى ساحة لحرب إقليمية بين إيران، تركيا، وباقي جيران العراق من الدول العربية، حيث سيدخل الجميع في تنافس من أجل حماية مصالحهم في العراق المدمر. ومن المتوقع أن تكون الجبهة الرئيسية أو التحالفات في هذه الحرب مشابهة لتلك التي جاءت أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، حيث من المتوقع أن يدعم الشيعة في العراق إيران والدول التي ساندتها في الحرب، أما الدول التي كانت قد وقفت بجانب العراق فإنها سوف تقدم الدعم للسنة.
يرى المؤلف بأن نموذج الاحتراب الطائفي في العراق الآن، ليس يصح كما هو شائع في الصحافة العالمية، بأنه فيتنام بالنسبة للأمريكان في بداية السبعينيات أو يوجوسلافيا في نهاية الثمانينيات، ويقترح هنا نموذجا بديلا هو نموذج الهند البريطانية في عام 1947، فلم يكن بالهند حرب أهلية، ولا جيوش شعبية مسلحة، ولا نظام مركزي للتطهير العراقي، ولا نزاع على الأرض، ورغم ذلك مات الملايين وتحول الكثير منهم إلى لاجئين، نجد أن جيش الهند البريطانية قد قسم البلاد إلى أغلبية هندوسية، ومناطق للأغلبية الإسلامية. ولم يتمكن هذه الجيش من تجسير الهوة الواسعة بين هذه المجموعات أو السيطرة على العنف، ولهذا أجبرت بريطانيا على الخروج بسرعة. نفس الأمر ينطبق على العراق اليوم، ففي الهند توقفت أو انتهت المشكلة عندما رأت الأقلية أن قدرها أن تحكم ومقابل ذلك قدمت بعض التنازلات للأغلبية للدخول في العملية السياسية.
كما يؤكد المؤلف نصر في نهاية كتابه "أن العنف الطائفي الواسع الانتشار الآن في العراق يقدم رسائل تذكير مشئومة عن الذي حدث في الهند قبل حوالي 60 عاماً، وربما يكون أسوأ منها ما يحدث في العراق فالحالة العراقية تتدهور بشكل كبير الأمر الذي قد يترك تداعياته على الشرق الأوسط بالكامل وانتقال هذا النزاع الطائفي إلى الشيعة والسنة في باقي الدول" وهو ما لا يجهد حصر العديد من الأدلة عليه في ظل بقاء الطائفية وهشاشة الوطنية حاكما للمسار السياسي في العراق.
نظن أن هذا الكتاب رغم جودة وجدية طرحه وعمق استقراءاته للساحة والمشهد الشيعي الحادث بعد حرب العراق سنة 2003 وتوقعاته بتمددات إيرانية غير متناهية وغير محددة في الجسد الشيعي طولا وعرضا، إلا أننا نظن الكاتب أراد تسويق إيران أمريكيا بدرجة كبيرة، وكذلك تعمية النظر الأمريكي عن عقدة ملفها النووي نحو سياسة تفاوضية يتم فيه التنازل عن هذا الملف مقابل قيام إيران بتقديم أدوار وخدمات محمولة على حصان الصحوة الشيعية للولايات المتحدة بالمقابل.
ولعل هذه الفرضية المركزية في هذا الكتاب كانت موجهة للكاتب في تجاهل ونفي وجود تنوعات وتمظهرات شيعية غير متحالفة مع إيران، بل مبتعدة عنها، وخاصة فيما يتعلق بشيعة الخليج، وبعض تكونات الشيعة في العراق، وكذلك نفيه وجود منافسة بين مرجعية النجف- المرجعية الأقدم والأرسخ- ومرجعية قم بنت عقود القرن العشرين.
_______________
رئيس وحدة الدراسات الإستراتيجية بمركز المجهر للدراسات والأبحاث- دبي.
المصدر:مركز الجزيرة للدراساتhttp://www.aljazeera.net/NR/EXERES/1B49C2DE-FE79-4569-9C9E-A2CCC59B6CC1.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق