إظهار التفاصيل 21 يوليو
|
خلفيات التفرقة والوهن لدى العرب في العالم المعاصر
جورج قرم
لا يشكّ في أي محلل مطلع على تاريخ المجتمعات العربية المعاصرة بأنَّه تاريخ مليء بالفتن في ما بين الأقطار العربية، كما داخل العديد من المجتمعات القطرية، مما وضع معظم المواطنين العرب في حالة حيْرة وقلق، بلْ بالنسبة إلى الجيل الشاب، في الرغبة الشديدة إلى هجرة الوطن نظراً لصعوبة الظروف المجتمعية والاجتماعية فيه. لذلك، وأمام هذا المشهد المفجع، لا بدَّ من أن نسعى إلى استيضاح أسباب التفرقة والفتن التي أصبحت سمة رئيسية من حياتنا العربية المعاصرة، لكيْ نتمكّن من المساهمة الفكرية المتواضعة من أجل تسريع ظهور نهضة عربية، قطرية وقومية، تغيّر من المسار الانحطاطي الذي نحن فيه، منذ الحرب العربية ـ الإسرائيلية في عام 1967، والقضاء على ما سمَّيْتُه في مؤلَّفي «انفجار المشرق العربي. من تأميم قناة السويس إلى غزو العراق 1956-2007» «دينامية الانحطاط».
وسنستعرض هنا معطيات أزمة الوجود العربي المتواصلة على محوريْن. يتعلَّق الأوَّل بما يمكن أن أسمّيه الأسباب الأنتروبولوجية التراثية في تاريخ المجتمعات العربية؛ والثاني سيركّز على المعطيات الحديثة التي قد تتشابك مع المعطيات التاريخية لتجعل من الدول العربية والمجتمعات التي تديرها دولاً رخوة غير متعاونة في ما بينها، مما يحطّ من شأن العرب في النظام الدولي ويعرِّض الأمة بشكل متواصل إلى الفتن والقلاقل والتدخل الخارجي الذي يمكن أن يأخذ أشكالاً استعمارية متجددة من الغزو العسكري والاحتلال.
أولاً: المعطيات التاريخية والانتروبولوجية
أـ ضرورة تجنُّب النظرة الأنتروبولوجية الجوهرانية
يجب أن نعالج تلك المعطيات بدقة متناهية لتجنّب الوقوع في النظريات الغربية حول العلم الانتروبولوجي الذي يدّعي تبيان سمات وطبائع وعقليات تميِّز المجموعات الإنسانية بشكل ثابت لا يتغيَّر عبر التاريخ، وهو طرح مهيْمن في علوم الانتروبولوجيا التي تمارس بأشكال مختلفة نوعاً من الرؤية الجوهرانية إلى طبائع الشعوب والمجتمعات، بحيث نعتقد أنَّ لكل شعب أو مجتمع أو ملّة أو إثنية أو مذهب ديني عقيدي موروث جيني الطابع لا يتغيَّر عبر التاريخ. هذه الجوهرانية قد اعتُمِدَت في كثيرٍ من الدراسات الاستشراقية حول المجتمعات العربية أو المجتمعات الإسلامية، وكأنَّ المقولتيْن مترادفتان أيْ كأنَّ هناك «مجتمع إسلامي» متطابق من أقصى شرق آسيا والقارة الهندية إلى المحيط الأطلسي، لا فرق بين عربي وأعجمي وتركي وأجزاء الشعوب الهندية أو الصينية المختلفة التي اعتنقت الإسلام ديناً.
وفي المجادلات الصاخبة بين المثقفين العرب في العصر الحديث، نرى البعض منهم ـ كما سيظهر لاحقاً في الجزء الثاني من هذه الدراسة ـ متأثرين إلى درجة كبيرة بهذه النظريات، فيتماهى عندهم صفة العربي وصفة اعتناق الديانة الإسلامية.
غير أنَّ المشاهدة التاريخية الدقيقة تفيد بأنَّ ليس من شعب إلا ونجده يتغيَّر عبر الأزمنة بفعل الظروف والأحداث والفتوحات والغزوات والحروب والتغيير في العادات الاجتماعية وفي المستوى العلمي والتكنولوجي. لذلك لا بدَّ من تجنُّب الوقوع في القول باستحالة تغيير الشعوب وحضارتها وعلومها عبر المراحل الزمنية الطويلة. ومما لا شك فيه أنَّ العرب اليوم هم غير العرب أيام ما يُسَمَّى بالجاهلية، وهم غير العرب في ظل هيْمنة العنصر العجمي والتركي على مقدّراتهم، وكذلك هم ليسوا تماماً كما العرب الذين قبعوا تحت الهيْمنة الاستعمارية البريطانية أو الفرنسية.
ب ـ من هم العرب؟ وما هو دور النظام القبلي والبطريركي في مجتمعاتهم
وعندما نتحدَّث عن العرب، فنحن في الحقيقة نشمل الشعوب العديدة المستعرَبة على أثر الفتوحات العربية، خاصةً في بلاد ما بين النهريْن ومصر وشرق المتوسط وغربه؛ كما نشمل في كلمة العرب الشعوب الأخرى التي حافظت على كيانها اللغوي الخاص مثل العنصر الأمازيغي في غرب المتوسط والعنصر الكردي والآشوري والسرياني في شرقه. ولا شك في أنَّ مثل هذا التعريف قد يثير حساسية كبيرة لدى أبناء المجتمعات التي لم تُستعرَب، وإنْ اعتمدت الإسلام ديناً لها، لكنني أتحدّث هنا عن مجتمعات مركّبة حيث تعايش وتداخل كل من العرب والمستعرَبين والمجموعات الإثنية التي لم تتعرّب بحالة أمان وسلام خلال قرون طويلة. وأنا أعني هنا أيضاً بكلمة «العرب» من تعرَّب من الطوائف المسيحية الشرقية، لكنَّها بقيَت على الديانة المسيحية تحت نظام قرآني المصدر، الخاص بأهل الكتاب الذين يصبحون بذمة الحكّام المسلمين، كما أعني الطوائف اليهودية التي كانت في المغرب العربي في كثير من الأحيان أمازيغية الأصل. أما في المشرق، فقد كانت متجذّرة منذ آلاف السنين، وبشكل خاص في الأرياف اليمنية وفي المدن العراقية، وهي أيضاً استفادت من مزايا نظام الملل، بالإضافة إلى العديد من اليهود من الأصل الأوروبي، وبشكل خاص الإسباني، الذين هربوا من أوروبا ليعيشوا باطمئنان وسلام في ديار المسلمين.
وهذه الدقائق في استعمال كلمة «عرب» هي مهمة للغاية لأنَّ المعنى الضيِّق للكلمة يشير في الأساس إلى مجموعة القبائل من البدو الرُّحَّل التي كانت تقطن شبه الجزيرة العربية، وبشكل خاص في شمالها، بينما في جنوبها كانت المجتمعات أكثر تنوّعاً نظراً لوجود بيئة زراعية ومدينية هامة. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو ما إذا كان العنصر القبلي في الحياة العربية هو الذي ما يزال يسيطر على الطبائع والعقليات في الزمن المعاصر وهو الذي يفسِّر المشاحنات والتفرقة والتنافس الفوضوي في ما بين العرب الذين بقوا قبائل غير منضبطة في إطار الدولة الحديثة؟ وهذا ما طرحه المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي عندما فسَّر التخلُّف العربي عن ركب الحضارة الحديثة بالبنية العائلية البطريركية الطابع، وهذا ما يعتقده العديد من المثقفين العرب المتأثرين بالأدب الأنتروبولوجي والإثني الأميركي الذي يركّز في ما يختص بالعرب على البنية القبائلية للمجتمعات، وكذلك على سلطة الرجل ضمن العائلة كسلطة مطلقة على جميع أفراد عائلتها.
ج ـ الأسباب الوضعية للانحطاط العربي
وباختصار، فأنا لا أؤمن بمثل هذه المقاربة التفسيرية لمصدر التخلّف ودينامية الانحطاط العربي المعاصر، إذْ أرى أسباباً أخرى موضوعية وتاريخية يجب أن تُؤخَذ بالحسبان عند تحليل وضع العرب في ركب الحضارة العالمية الحديثة، وسأكتفي بذكر أهمها:
1. خروج العرب من القيادة السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط منذ القرن العاشر
إنَّ ظاهرة خروج العرب من التاريخ خلال العصر العباسي عند بلوغ الحضارة العربية الإسلامية أرقى المستويات لهيَ ظاهرة لافتة للنظر، لكنّها قلَّما تمّ درسها بشيء من الإمعان. كيف نرى فجأة العنصر العربي يبتعد عن إدارة دولة الخلافة التي أسسها بإنجازات عسكرية وحضارية عظيمة وترك الأمر للوزراء والقيادات العسكرية غير العربية؟ وهذا الخروج من الحكم سمح للممالك التركية والعجمية بممارسة الحكم الفعلي إلى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، عندما تفكَّكت السلطنة العثمانية وانحصرت قوة وسطوة الدولة الفارسية. وقد كانت الدولتان في حالة حروب متواصلة في ما بينها منذ بدايات القرن السادس عشر، مما أضعف الدولتيْن معاً وفتح الباب أمام الهيْمنة الأوروبية المتعاظمة على الشرق الأوسط. وهذه ظاهرة قلَّما تحظى بانتباه المؤرخين الذين أصبحوا أسرى منهج تأريخ الدول الإسلامية وليس منهج تأريخ العرب، وبالتالي فإنَّ الهوية اللغوية والثقافية للحكام لم يكن لها وزن في مقاربة تاريخ يركّز على الشعوب الإسلامية، وليس على الشعوب العربية طالما أنَّ الحاكم يدين بالإسلام.
ويبقى السؤال المطروح حول ما حصل في الأندلس من حروب ملوك الطوائف المدمِّرة والتي سهَّلت إعادة سيطرة المجموعات الإيبيرية المختلفة على شبه الجزيرة وطرد كلٍّ من اليهود والمسلمين العرب منها، أو إجبارهم على التنصرُن.
2. ظروف نيْل الاستقلال أعادت العرب وشركاءهم من الإثنيات الأخرى إلى الحكم دون سابق تجربة
لا أودّ هنا أن أحمِّل فقط العوامل الخارجية مسؤولية ما حصل من تقسيم المجتمعات العربية إلى دول متفرِّقة تعاني من مشاكل كبيرة في ترسيم الحدود في ما بينها. وقد تمَّ تثبيت الانفصال الجغرافي بين المشرق والمغرب العربي عبر إنشاء الكيان الصهيوني، ومن ثم كثافة التدخلات الخارجية في أمور الدول العربية الناشئة، خاصةً في المنافسة الدولية بين الدول الكبرى لوضع اليد على مصالح اقتصادية استراتيجية، وخاصةً النفطية منها؛ ولكن هذه العوامل الخارجية لا يمكن إنكارها، فمنطقة الشرق الأوسط هي منطقة عالمية استراتيجية على مفترق طرقات التجارة الرئيسية وتتمتع بثروات ضخمة. هذا بالإضافة إلى زعزعة الروابط التاريخية بين المسلمين واليهود من العرب بفعل إنشاء الكيان الصهيوني والضغط على العرب اليهود في المغرب العربي كما في المشرق لترك البلاد التي ينتمون إليها منذ أقدم الأزمنة وهم فيها شركاء المسلمين للهجرة إلى الكيان الصهيوني أو إلى الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة.
وفي هذا المضمار بالذات لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ العالم العربي قد يكون المنطقة الوحيدة في العالم، حيث تمَّ زرع وإنشاء كيان اصطناعي سياسي وعسكري، وهو الكيان الصهيوني ما يزال حتى الآن يتمتع بدعمٍ مطلق وأعمى بالسلاح والعتاد والمواقف السياسية المؤيِّدة لكل أعمال العنف الذي يقوم به تجاه الفلسطينيين واللبنانيين.
3. أسباب التقوقع والانغلاق الهويتي
إنَّ التقوقع الذي حصل على الهوية الدينية في نصف القرن الأخير على حساب الهوية الثقافية والحضارية العربية المنفتحة بطبيعة الحال على ثقافات الاثنيات الأخرى التي تعايشت بسلام على مدى القرون مع العنصر العربي والمستعرَب، قد ترافق أيضاً مع التقوقع على الهويات الإثنية والقبائلية والمناطقية والدينية والمذهبية على حساب كل عناصر الهوية الجامعة للمجتمعات العربية داخل كل قطر عربي أو في ما بينها. وهذه الظاهرة المعقدة لهيَ تعبّر عن فشليْن:
÷ العجز في تنمية حضارة عربية ـ أمازيغية في المغرب العربي وتنمية ثقافية عربية ـ سريانية في المشرق العربي وثقافة عربية ـ فرعونية في مصر، وعدم الانفتاح على اللغة الكردية واللغة الأمازيغية وتراثهما والاهتمام بهما.
÷ عجز الدول الناشئة عن بناء مجتمع يسود فيه العدل والمساواة، وتزايد الفوارق بين فئات اجتماعية مختلفة بشكل عملاق في العقود الأخيرة، وذلك عبر إثراء بعض أفراد المجتمعات بشكل فجائي ودون مساهمة في الإنتاج والإبداع الاقتصادي أو التكنولوجي والعلمي.
ومما لا شك فيه أنَّ في ظل مثل هذه الظروف القاسية، يمكن أن نفهم تقوقع أبناء المجتمعات العربية حول زعامات تقليدية، دينية أو مذهبية، وبروز النزعات الانفصالية لدى الفئات غير العربية لغوياً، ومن جانب التطرّف ظهور حركات عبثية مسلَّحة تمارس الإرهاب في مجتمعاتها وترفع اتهامات التكفير يميناً وشمالاً وتطالب بمزيد من التقوقع على هوية دينية متخيَّلة تنفي كل التطور التاريخي الذي حصل في العالم وفي المنطقة منذ قرون.
وهذا هو الوضع الذي يجب أن نأخذه في الحسبان عندما نحلل الانحطاط الذي يصيبنا ونزعات الفتنة والتفرقة التي لا تنتهي. ومن أجل معالجة هذا الوضع لا بدَّ من النظر بإمعان ودقة في القضايا الفكرية الكبرى التي اختلفت النخب العربية عليها، أشد الاختلاف في بعض المواقع، مما حال دون بناء نظام معرفي وإدراكي عربي موحَّد يسمح بإدارة تعددية الأهواء واستيعاب ما تأتي به الحداثة من أفكار وتوجهات وطموحات مختلفة، وهذا ما سنستعرضه في الجزءالتالي من دراستنا.
ثانياً: الخلافات الفلسفية ـ السياسية المثيرة للفتن في ما بين العرب
هناك العديد من المواضيع الخلافية الحادة بين العرب أدَّت إلى فتن وقلاقل متواصلة منذ مرحلة تفكك السلطنة العثمانية، وحريٌّ بنا أن نستعرض هذه المواضيع ونتفحّص مصدرها ونحدد الآليات المغذِّية للخلافات عبر هذا الاستعراض. وسنرى في ما يلي التشابك المفسِد بين إشكاليات تاريخية داخلية في الوجود العربي وبين إشكاليات مستورَدة من التصورات الفلسفية الكبرى الأوروبية، إذْ أنَّ هذا التشابك أدَّى إلى ظهور حركات راديكالية بتلاوين مختلفة.
1) الإشكاليات الداخلية التاريخية الطابع
سبق أن ذكرنا في الجزء الأوَّل من هذه الدراسة خروج العرب من التاريخ السياسي والعسكري للمنطقة ابتداء من القرن العاشر، وبشكل خاص في المشرق العربي، بينما ظل المغرب العربي نشيطاً رغم ما أصاب قوة العرب والامازيغيين المتحالفين من تراجع أدى إلى انهيار الوجود العربي الأمازيغي في الأندلس.
وقد أصبح العرب يعيشون مطمئنين في كنف السلطنة العثمانية ابتداءً من بداية القرن السادس عشر بعد أن كانوا قد تعوَّدوا على العيش في كيانات تديرها قيادات تركية الأصل في معظم أنحاء المشرق العربي (وكذلك عجمية الطابع في أجزاء واسعة من بلاد ما بين النهريْن).
ومنذ بداية القرن التاسع عشر بدا جلياً مدى تعرُّض المجتمعات العربية إلى الهجمات الاستعمارية الفرنسية في المغرب العربي والإنكليزية في المشرق العربي، وكانت السلطنة العثمانية قد دخلت في طور الانحلال بدءاً بمقاطعاتها البلقانية والقوقازية. وإذْ بالعرب يجدون أنفسهم دون حماية لمجتمعاتهم من الغزوات الاستعمارية الأوروبية. فظهرت بالتالي بدايات الانقسام بين من كان يرى من العرب ضرورة تقوية الروابط الدينية بين العرب والقيادات المسلمة من غير العرب لصدّ الهجمات الاستعمارية من جهة، وبين من كان يرى ضرورة إعادة إحياء هوية عربية مستقلة تناضل من أجل كسب استقلال المجتمعات العربية عن أية قوة خارجية، أوروبية كانت أم عثمانية أو عجمية الطابع، من جهة أخرى. وقد وقف في المشرق العربي جزء هام من النخبة في موقف وسطي، أيْ موقف يطالب السلطنة العثمانية بمنح العنصر العربي ومقاطعات السلطنة ذات الأغلبية السكانية العربية اللامركزية والحقوق الثقافية واللغوية.
وخلافاً للرؤية الاستشراقية التي تبنّاها بعض المثقفين العرب، فإنَّ النخبة العربية المشرقية المسيحية لن تنصب العداء المطلق للعنصر العثماني لكونه مسلماً، بلْ انخرطت في تيارات سياسية تؤكّد الولاء للسلطان، إنَّما تطالب بالحقوق العربية في إدارة السلطنة وذلك إلى جانب العديد من الشخصيات العربية المسلمة. غير أنّ الروايات الاستشراقية المتتالية طوَّرت سردية حول النهضة العربية وتطوير الهوية العربية تبرز «دور الأقليات» المسيحية أو الكردية أو اليهودية في العمل من أجل تنامي شعور قومي عربي منفصل عن الرابط الديني مع الشعوب المسلمة الأخرى، وهذا بطبيعة الحال مخالف تماماً للوقائع التاريخية، إذْ ستنخرط جماهير واسعة من كل الطوائف ليس فقط في الأحزاب العروبية الطابع التي ستنمو بعد انهيار السلطنة والقضاء على مؤسسة الخلافة، بلْ أيضاً في الحركات التقدمية الطابع المتأثّرة بالأدبيات الماركسية وبالحداثة الأوروبية وما كانت تحتوي عليه في حينه من قيَم وضعية ودنيوية الطابع.
غير أنَّ التناحر المستتر أو الظاهر قد تنامى منذ بداية تلك المرحلة التاريخية بين أنصار الحفاظ على الرابط الديني كأساس مزدوج للحياة المجتمعية العربية، كما للعلاقات مع المجتمعات والدول الإسلامية الطابع من جهة، وبين المتحمّسين إلى الحداثة الأوروبية ثم الأميركية الأصل من جهة أخرى. وقد رأى أنصار المدرسة الأولى المحافِظة أنَّ التأقلم مع الحداثة هي أداة لتقويض المجتمعات الإسلامية، نظراً لما تحتوي عليه هذه القيَم من قيَم لا تتفق مع القيَم التقليدية الإسلامية.
والجدير بالذكر هنا أنَّ إنشاء المملكة العربية السعودية في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، على أساس اعتماد المذهب الوهابي المتشدّد كعقيدة للدولة الجديدة سيصبح عاملاً أساسياً في تقوية النظرة الإسلاموية الطابع إلى أمور الدنيا بكل أبعادها الحداثوية والاستعمارية. أما الحداثويون العرب فقد رأوا في جمال عبد الناصر بطلهم ومحط آمالهم المستقبلية في تحقيق دولة الوحدة التي ستؤمِّن الحياة الكريمة لكل العرب. وقد تصادمت عند العرب رؤيتان للعالم، رؤية دنيوية وضعية ورؤية دينية ميتافيزيقية ما ورائية غيبية للعالم.
ولا بدَّ من الإشارة السريعة إلى ما أصاب النظرة العروبية الدنيوية من انتكاسة كبيرة بعد نكبة حرب 1967 وإفساح المجال أمام نشر المبادئ الوهابية، وكذلك مبادئ سيد قطب في مصر. وجميع هذه التطورات سهَّلت نجاح أطروحة الباحث الأميركي الراحل صامويل هانتينغتون حول صراع الحضارات التي حلَّت محل الصراع بين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الليبرالي تحت قيادة الولايات المتحدة، وذلك بالرغم من وجود العديد من الشخصيات العربية وغير العربية في تبنّي الطرح المضاد في تحالف أو توافق أو تحاور الحضارات. وهو طرح يعزز بشكل غير مباشر طرح الصراع، إذْ يطالب بالحوار بدلاً من الصراع وكأنَّ وجود صراع بين الحضارات هو مسلَّمة ومسبِّب للحروب بدلاً من الأطماع الاستعمارية وحبّ الهيمنة والسيطرة والطموحات المجنونة لبعض القادة.
نتج عن هذه الإشكاليات الداخلية، وهي بدورها نبعت من الظروف الموضوعية التي أتاحت عودة العرب إلى الوجود الكياني في النظام الدولي بعد غيابهم على مدى قرون، خلافات وحساسيات كبيرة بين الكيانات المختلفة التي أخذت تستقل الواحدة تلو الأخرى ابتداءً من الخمسينيات من القرن الماضي. وكان قد سبق موجة الاستقلالات عن المستعمر الأوروبي صراع حادّ في موضوع من يرث من الكيانات العربية الناشئة مؤسسة الخلافة الإسلامية بعد إلغائها من قبَل مصطفى كمال أتاتورك سنة 1923؛ وكانت العائلة الهاشمية والعائلة السعودية وملك مصر في صراع مرير لإعادة مؤسسة الخلافة انطلاقاً من قاعدة سياسية عربية. أما بعد الاستقلال، فقد عصفت خلافات كبيرة بين الدول العربية الهامة للزعامة على كتلة الدول العربية المنضوية في جامعة الدول العربية؛ هذا بالإضافة إلى قضايا ترسيم الحدود بين الكيانات العربية الجديدة التي أنتجت قضية الصحراء الإسبانية سابقاً من بين قضايا أخرى متعدّدة تمَّت تسويتها على مر السنين دون ضجة.
أما أهم عنصر للمناحرة بين الأنظمة العربية، فقد أصبح الانقسام بين أنظمة تقدمية تمارس سياسات اقتصادية معيَّنة لنشر التعليم والصحة في مجتمعاتها وتقوم بالتأميمات وبالحدّ من الحريات الاقتصادية وتأييد حركات التحرر العربية وغير العربية من جهة؛ والأنظمة المحافِظة القريبة من مراكز القرار في الولايات المتحدة والمتحالِفة معها والتي تمارس سياسات اقتصادية تعتمد النظام الرأسمالي والمبادرة الفردية والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية، من جهة أخرى، وتتكل هذه الأخيرة على معونات الدول الغربية، بينما تتكل الأنظمة التقدمية الطابع على معونات المعسكر الاشتراكي. وكما هو معلوم، ودون الإطالة في هذا الموضوع، فإنَّ نتائج الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 بدلاً من أن تُتَرْجَم نصراً مبيناً، أدَّت إلى مزيد من احتلال الأراضي العربية من قبَل إسرائيل والفراق بين مصر وسوريا وانقسام عربي متجدّد بين أنظمة الصمود والتصدي وأنظمة مهادنة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، ممّا أفسح المجال أمام السلام المنفرد بين مصر وإسرائيل، تلاه مباشرةً وصول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت عام 1982 لاقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من الأراضي اللبنانية وإقامة نظام يسيطر عليه حزب الكتائب المتحالف مع المحور الصهيوني ـ الأميركي في حينه.
وكلما ظهرت بشكل مفجع علامات الانقسام الحادة بين الأنظمة العربية، توسّعت دائرة نفوذ رؤية العالم بالمنظار الإسلامي المتشدّد، بلْ والتكفير في بعض صيَغه كبديل للتعاضد العضوي بين المجتمعات العربية. وهذا بدوره خلق قلاقل داخلية في العديد من المجتمعات، حيث أصبحت أجهزة الحكم تقمع وتسجن قيادات تلك الحركات الدينية بعد أن كانت قد شجعتها في بسط نفوذها للقضاء على النفوذ الناصري العروبي الطابع والدنيوي.
وسنستعرض هنا معطيات أزمة الوجود العربي المتواصلة على محوريْن. يتعلَّق الأوَّل بما يمكن أن أسمّيه الأسباب الأنتروبولوجية التراثية في تاريخ المجتمعات العربية؛ والثاني سيركّز على المعطيات الحديثة التي قد تتشابك مع المعطيات التاريخية لتجعل من الدول العربية والمجتمعات التي تديرها دولاً رخوة غير متعاونة في ما بينها، مما يحطّ من شأن العرب في النظام الدولي ويعرِّض الأمة بشكل متواصل إلى الفتن والقلاقل والتدخل الخارجي الذي يمكن أن يأخذ أشكالاً استعمارية متجددة من الغزو العسكري والاحتلال.
أولاً: المعطيات التاريخية والانتروبولوجية
أـ ضرورة تجنُّب النظرة الأنتروبولوجية الجوهرانية
يجب أن نعالج تلك المعطيات بدقة متناهية لتجنّب الوقوع في النظريات الغربية حول العلم الانتروبولوجي الذي يدّعي تبيان سمات وطبائع وعقليات تميِّز المجموعات الإنسانية بشكل ثابت لا يتغيَّر عبر التاريخ، وهو طرح مهيْمن في علوم الانتروبولوجيا التي تمارس بأشكال مختلفة نوعاً من الرؤية الجوهرانية إلى طبائع الشعوب والمجتمعات، بحيث نعتقد أنَّ لكل شعب أو مجتمع أو ملّة أو إثنية أو مذهب ديني عقيدي موروث جيني الطابع لا يتغيَّر عبر التاريخ. هذه الجوهرانية قد اعتُمِدَت في كثيرٍ من الدراسات الاستشراقية حول المجتمعات العربية أو المجتمعات الإسلامية، وكأنَّ المقولتيْن مترادفتان أيْ كأنَّ هناك «مجتمع إسلامي» متطابق من أقصى شرق آسيا والقارة الهندية إلى المحيط الأطلسي، لا فرق بين عربي وأعجمي وتركي وأجزاء الشعوب الهندية أو الصينية المختلفة التي اعتنقت الإسلام ديناً.
وفي المجادلات الصاخبة بين المثقفين العرب في العصر الحديث، نرى البعض منهم ـ كما سيظهر لاحقاً في الجزء الثاني من هذه الدراسة ـ متأثرين إلى درجة كبيرة بهذه النظريات، فيتماهى عندهم صفة العربي وصفة اعتناق الديانة الإسلامية.
غير أنَّ المشاهدة التاريخية الدقيقة تفيد بأنَّ ليس من شعب إلا ونجده يتغيَّر عبر الأزمنة بفعل الظروف والأحداث والفتوحات والغزوات والحروب والتغيير في العادات الاجتماعية وفي المستوى العلمي والتكنولوجي. لذلك لا بدَّ من تجنُّب الوقوع في القول باستحالة تغيير الشعوب وحضارتها وعلومها عبر المراحل الزمنية الطويلة. ومما لا شك فيه أنَّ العرب اليوم هم غير العرب أيام ما يُسَمَّى بالجاهلية، وهم غير العرب في ظل هيْمنة العنصر العجمي والتركي على مقدّراتهم، وكذلك هم ليسوا تماماً كما العرب الذين قبعوا تحت الهيْمنة الاستعمارية البريطانية أو الفرنسية.
ب ـ من هم العرب؟ وما هو دور النظام القبلي والبطريركي في مجتمعاتهم
وعندما نتحدَّث عن العرب، فنحن في الحقيقة نشمل الشعوب العديدة المستعرَبة على أثر الفتوحات العربية، خاصةً في بلاد ما بين النهريْن ومصر وشرق المتوسط وغربه؛ كما نشمل في كلمة العرب الشعوب الأخرى التي حافظت على كيانها اللغوي الخاص مثل العنصر الأمازيغي في غرب المتوسط والعنصر الكردي والآشوري والسرياني في شرقه. ولا شك في أنَّ مثل هذا التعريف قد يثير حساسية كبيرة لدى أبناء المجتمعات التي لم تُستعرَب، وإنْ اعتمدت الإسلام ديناً لها، لكنني أتحدّث هنا عن مجتمعات مركّبة حيث تعايش وتداخل كل من العرب والمستعرَبين والمجموعات الإثنية التي لم تتعرّب بحالة أمان وسلام خلال قرون طويلة. وأنا أعني هنا أيضاً بكلمة «العرب» من تعرَّب من الطوائف المسيحية الشرقية، لكنَّها بقيَت على الديانة المسيحية تحت نظام قرآني المصدر، الخاص بأهل الكتاب الذين يصبحون بذمة الحكّام المسلمين، كما أعني الطوائف اليهودية التي كانت في المغرب العربي في كثير من الأحيان أمازيغية الأصل. أما في المشرق، فقد كانت متجذّرة منذ آلاف السنين، وبشكل خاص في الأرياف اليمنية وفي المدن العراقية، وهي أيضاً استفادت من مزايا نظام الملل، بالإضافة إلى العديد من اليهود من الأصل الأوروبي، وبشكل خاص الإسباني، الذين هربوا من أوروبا ليعيشوا باطمئنان وسلام في ديار المسلمين.
وهذه الدقائق في استعمال كلمة «عرب» هي مهمة للغاية لأنَّ المعنى الضيِّق للكلمة يشير في الأساس إلى مجموعة القبائل من البدو الرُّحَّل التي كانت تقطن شبه الجزيرة العربية، وبشكل خاص في شمالها، بينما في جنوبها كانت المجتمعات أكثر تنوّعاً نظراً لوجود بيئة زراعية ومدينية هامة. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو ما إذا كان العنصر القبلي في الحياة العربية هو الذي ما يزال يسيطر على الطبائع والعقليات في الزمن المعاصر وهو الذي يفسِّر المشاحنات والتفرقة والتنافس الفوضوي في ما بين العرب الذين بقوا قبائل غير منضبطة في إطار الدولة الحديثة؟ وهذا ما طرحه المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي عندما فسَّر التخلُّف العربي عن ركب الحضارة الحديثة بالبنية العائلية البطريركية الطابع، وهذا ما يعتقده العديد من المثقفين العرب المتأثرين بالأدب الأنتروبولوجي والإثني الأميركي الذي يركّز في ما يختص بالعرب على البنية القبائلية للمجتمعات، وكذلك على سلطة الرجل ضمن العائلة كسلطة مطلقة على جميع أفراد عائلتها.
ج ـ الأسباب الوضعية للانحطاط العربي
وباختصار، فأنا لا أؤمن بمثل هذه المقاربة التفسيرية لمصدر التخلّف ودينامية الانحطاط العربي المعاصر، إذْ أرى أسباباً أخرى موضوعية وتاريخية يجب أن تُؤخَذ بالحسبان عند تحليل وضع العرب في ركب الحضارة العالمية الحديثة، وسأكتفي بذكر أهمها:
1. خروج العرب من القيادة السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط منذ القرن العاشر
إنَّ ظاهرة خروج العرب من التاريخ خلال العصر العباسي عند بلوغ الحضارة العربية الإسلامية أرقى المستويات لهيَ ظاهرة لافتة للنظر، لكنّها قلَّما تمّ درسها بشيء من الإمعان. كيف نرى فجأة العنصر العربي يبتعد عن إدارة دولة الخلافة التي أسسها بإنجازات عسكرية وحضارية عظيمة وترك الأمر للوزراء والقيادات العسكرية غير العربية؟ وهذا الخروج من الحكم سمح للممالك التركية والعجمية بممارسة الحكم الفعلي إلى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، عندما تفكَّكت السلطنة العثمانية وانحصرت قوة وسطوة الدولة الفارسية. وقد كانت الدولتان في حالة حروب متواصلة في ما بينها منذ بدايات القرن السادس عشر، مما أضعف الدولتيْن معاً وفتح الباب أمام الهيْمنة الأوروبية المتعاظمة على الشرق الأوسط. وهذه ظاهرة قلَّما تحظى بانتباه المؤرخين الذين أصبحوا أسرى منهج تأريخ الدول الإسلامية وليس منهج تأريخ العرب، وبالتالي فإنَّ الهوية اللغوية والثقافية للحكام لم يكن لها وزن في مقاربة تاريخ يركّز على الشعوب الإسلامية، وليس على الشعوب العربية طالما أنَّ الحاكم يدين بالإسلام.
ويبقى السؤال المطروح حول ما حصل في الأندلس من حروب ملوك الطوائف المدمِّرة والتي سهَّلت إعادة سيطرة المجموعات الإيبيرية المختلفة على شبه الجزيرة وطرد كلٍّ من اليهود والمسلمين العرب منها، أو إجبارهم على التنصرُن.
2. ظروف نيْل الاستقلال أعادت العرب وشركاءهم من الإثنيات الأخرى إلى الحكم دون سابق تجربة
لا أودّ هنا أن أحمِّل فقط العوامل الخارجية مسؤولية ما حصل من تقسيم المجتمعات العربية إلى دول متفرِّقة تعاني من مشاكل كبيرة في ترسيم الحدود في ما بينها. وقد تمَّ تثبيت الانفصال الجغرافي بين المشرق والمغرب العربي عبر إنشاء الكيان الصهيوني، ومن ثم كثافة التدخلات الخارجية في أمور الدول العربية الناشئة، خاصةً في المنافسة الدولية بين الدول الكبرى لوضع اليد على مصالح اقتصادية استراتيجية، وخاصةً النفطية منها؛ ولكن هذه العوامل الخارجية لا يمكن إنكارها، فمنطقة الشرق الأوسط هي منطقة عالمية استراتيجية على مفترق طرقات التجارة الرئيسية وتتمتع بثروات ضخمة. هذا بالإضافة إلى زعزعة الروابط التاريخية بين المسلمين واليهود من العرب بفعل إنشاء الكيان الصهيوني والضغط على العرب اليهود في المغرب العربي كما في المشرق لترك البلاد التي ينتمون إليها منذ أقدم الأزمنة وهم فيها شركاء المسلمين للهجرة إلى الكيان الصهيوني أو إلى الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة.
وفي هذا المضمار بالذات لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ العالم العربي قد يكون المنطقة الوحيدة في العالم، حيث تمَّ زرع وإنشاء كيان اصطناعي سياسي وعسكري، وهو الكيان الصهيوني ما يزال حتى الآن يتمتع بدعمٍ مطلق وأعمى بالسلاح والعتاد والمواقف السياسية المؤيِّدة لكل أعمال العنف الذي يقوم به تجاه الفلسطينيين واللبنانيين.
3. أسباب التقوقع والانغلاق الهويتي
إنَّ التقوقع الذي حصل على الهوية الدينية في نصف القرن الأخير على حساب الهوية الثقافية والحضارية العربية المنفتحة بطبيعة الحال على ثقافات الاثنيات الأخرى التي تعايشت بسلام على مدى القرون مع العنصر العربي والمستعرَب، قد ترافق أيضاً مع التقوقع على الهويات الإثنية والقبائلية والمناطقية والدينية والمذهبية على حساب كل عناصر الهوية الجامعة للمجتمعات العربية داخل كل قطر عربي أو في ما بينها. وهذه الظاهرة المعقدة لهيَ تعبّر عن فشليْن:
÷ العجز في تنمية حضارة عربية ـ أمازيغية في المغرب العربي وتنمية ثقافية عربية ـ سريانية في المشرق العربي وثقافة عربية ـ فرعونية في مصر، وعدم الانفتاح على اللغة الكردية واللغة الأمازيغية وتراثهما والاهتمام بهما.
÷ عجز الدول الناشئة عن بناء مجتمع يسود فيه العدل والمساواة، وتزايد الفوارق بين فئات اجتماعية مختلفة بشكل عملاق في العقود الأخيرة، وذلك عبر إثراء بعض أفراد المجتمعات بشكل فجائي ودون مساهمة في الإنتاج والإبداع الاقتصادي أو التكنولوجي والعلمي.
ومما لا شك فيه أنَّ في ظل مثل هذه الظروف القاسية، يمكن أن نفهم تقوقع أبناء المجتمعات العربية حول زعامات تقليدية، دينية أو مذهبية، وبروز النزعات الانفصالية لدى الفئات غير العربية لغوياً، ومن جانب التطرّف ظهور حركات عبثية مسلَّحة تمارس الإرهاب في مجتمعاتها وترفع اتهامات التكفير يميناً وشمالاً وتطالب بمزيد من التقوقع على هوية دينية متخيَّلة تنفي كل التطور التاريخي الذي حصل في العالم وفي المنطقة منذ قرون.
وهذا هو الوضع الذي يجب أن نأخذه في الحسبان عندما نحلل الانحطاط الذي يصيبنا ونزعات الفتنة والتفرقة التي لا تنتهي. ومن أجل معالجة هذا الوضع لا بدَّ من النظر بإمعان ودقة في القضايا الفكرية الكبرى التي اختلفت النخب العربية عليها، أشد الاختلاف في بعض المواقع، مما حال دون بناء نظام معرفي وإدراكي عربي موحَّد يسمح بإدارة تعددية الأهواء واستيعاب ما تأتي به الحداثة من أفكار وتوجهات وطموحات مختلفة، وهذا ما سنستعرضه في الجزءالتالي من دراستنا.
ثانياً: الخلافات الفلسفية ـ السياسية المثيرة للفتن في ما بين العرب
هناك العديد من المواضيع الخلافية الحادة بين العرب أدَّت إلى فتن وقلاقل متواصلة منذ مرحلة تفكك السلطنة العثمانية، وحريٌّ بنا أن نستعرض هذه المواضيع ونتفحّص مصدرها ونحدد الآليات المغذِّية للخلافات عبر هذا الاستعراض. وسنرى في ما يلي التشابك المفسِد بين إشكاليات تاريخية داخلية في الوجود العربي وبين إشكاليات مستورَدة من التصورات الفلسفية الكبرى الأوروبية، إذْ أنَّ هذا التشابك أدَّى إلى ظهور حركات راديكالية بتلاوين مختلفة.
1) الإشكاليات الداخلية التاريخية الطابع
سبق أن ذكرنا في الجزء الأوَّل من هذه الدراسة خروج العرب من التاريخ السياسي والعسكري للمنطقة ابتداء من القرن العاشر، وبشكل خاص في المشرق العربي، بينما ظل المغرب العربي نشيطاً رغم ما أصاب قوة العرب والامازيغيين المتحالفين من تراجع أدى إلى انهيار الوجود العربي الأمازيغي في الأندلس.
وقد أصبح العرب يعيشون مطمئنين في كنف السلطنة العثمانية ابتداءً من بداية القرن السادس عشر بعد أن كانوا قد تعوَّدوا على العيش في كيانات تديرها قيادات تركية الأصل في معظم أنحاء المشرق العربي (وكذلك عجمية الطابع في أجزاء واسعة من بلاد ما بين النهريْن).
ومنذ بداية القرن التاسع عشر بدا جلياً مدى تعرُّض المجتمعات العربية إلى الهجمات الاستعمارية الفرنسية في المغرب العربي والإنكليزية في المشرق العربي، وكانت السلطنة العثمانية قد دخلت في طور الانحلال بدءاً بمقاطعاتها البلقانية والقوقازية. وإذْ بالعرب يجدون أنفسهم دون حماية لمجتمعاتهم من الغزوات الاستعمارية الأوروبية. فظهرت بالتالي بدايات الانقسام بين من كان يرى من العرب ضرورة تقوية الروابط الدينية بين العرب والقيادات المسلمة من غير العرب لصدّ الهجمات الاستعمارية من جهة، وبين من كان يرى ضرورة إعادة إحياء هوية عربية مستقلة تناضل من أجل كسب استقلال المجتمعات العربية عن أية قوة خارجية، أوروبية كانت أم عثمانية أو عجمية الطابع، من جهة أخرى. وقد وقف في المشرق العربي جزء هام من النخبة في موقف وسطي، أيْ موقف يطالب السلطنة العثمانية بمنح العنصر العربي ومقاطعات السلطنة ذات الأغلبية السكانية العربية اللامركزية والحقوق الثقافية واللغوية.
وخلافاً للرؤية الاستشراقية التي تبنّاها بعض المثقفين العرب، فإنَّ النخبة العربية المشرقية المسيحية لن تنصب العداء المطلق للعنصر العثماني لكونه مسلماً، بلْ انخرطت في تيارات سياسية تؤكّد الولاء للسلطان، إنَّما تطالب بالحقوق العربية في إدارة السلطنة وذلك إلى جانب العديد من الشخصيات العربية المسلمة. غير أنّ الروايات الاستشراقية المتتالية طوَّرت سردية حول النهضة العربية وتطوير الهوية العربية تبرز «دور الأقليات» المسيحية أو الكردية أو اليهودية في العمل من أجل تنامي شعور قومي عربي منفصل عن الرابط الديني مع الشعوب المسلمة الأخرى، وهذا بطبيعة الحال مخالف تماماً للوقائع التاريخية، إذْ ستنخرط جماهير واسعة من كل الطوائف ليس فقط في الأحزاب العروبية الطابع التي ستنمو بعد انهيار السلطنة والقضاء على مؤسسة الخلافة، بلْ أيضاً في الحركات التقدمية الطابع المتأثّرة بالأدبيات الماركسية وبالحداثة الأوروبية وما كانت تحتوي عليه في حينه من قيَم وضعية ودنيوية الطابع.
غير أنَّ التناحر المستتر أو الظاهر قد تنامى منذ بداية تلك المرحلة التاريخية بين أنصار الحفاظ على الرابط الديني كأساس مزدوج للحياة المجتمعية العربية، كما للعلاقات مع المجتمعات والدول الإسلامية الطابع من جهة، وبين المتحمّسين إلى الحداثة الأوروبية ثم الأميركية الأصل من جهة أخرى. وقد رأى أنصار المدرسة الأولى المحافِظة أنَّ التأقلم مع الحداثة هي أداة لتقويض المجتمعات الإسلامية، نظراً لما تحتوي عليه هذه القيَم من قيَم لا تتفق مع القيَم التقليدية الإسلامية.
والجدير بالذكر هنا أنَّ إنشاء المملكة العربية السعودية في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، على أساس اعتماد المذهب الوهابي المتشدّد كعقيدة للدولة الجديدة سيصبح عاملاً أساسياً في تقوية النظرة الإسلاموية الطابع إلى أمور الدنيا بكل أبعادها الحداثوية والاستعمارية. أما الحداثويون العرب فقد رأوا في جمال عبد الناصر بطلهم ومحط آمالهم المستقبلية في تحقيق دولة الوحدة التي ستؤمِّن الحياة الكريمة لكل العرب. وقد تصادمت عند العرب رؤيتان للعالم، رؤية دنيوية وضعية ورؤية دينية ميتافيزيقية ما ورائية غيبية للعالم.
ولا بدَّ من الإشارة السريعة إلى ما أصاب النظرة العروبية الدنيوية من انتكاسة كبيرة بعد نكبة حرب 1967 وإفساح المجال أمام نشر المبادئ الوهابية، وكذلك مبادئ سيد قطب في مصر. وجميع هذه التطورات سهَّلت نجاح أطروحة الباحث الأميركي الراحل صامويل هانتينغتون حول صراع الحضارات التي حلَّت محل الصراع بين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الليبرالي تحت قيادة الولايات المتحدة، وذلك بالرغم من وجود العديد من الشخصيات العربية وغير العربية في تبنّي الطرح المضاد في تحالف أو توافق أو تحاور الحضارات. وهو طرح يعزز بشكل غير مباشر طرح الصراع، إذْ يطالب بالحوار بدلاً من الصراع وكأنَّ وجود صراع بين الحضارات هو مسلَّمة ومسبِّب للحروب بدلاً من الأطماع الاستعمارية وحبّ الهيمنة والسيطرة والطموحات المجنونة لبعض القادة.
نتج عن هذه الإشكاليات الداخلية، وهي بدورها نبعت من الظروف الموضوعية التي أتاحت عودة العرب إلى الوجود الكياني في النظام الدولي بعد غيابهم على مدى قرون، خلافات وحساسيات كبيرة بين الكيانات المختلفة التي أخذت تستقل الواحدة تلو الأخرى ابتداءً من الخمسينيات من القرن الماضي. وكان قد سبق موجة الاستقلالات عن المستعمر الأوروبي صراع حادّ في موضوع من يرث من الكيانات العربية الناشئة مؤسسة الخلافة الإسلامية بعد إلغائها من قبَل مصطفى كمال أتاتورك سنة 1923؛ وكانت العائلة الهاشمية والعائلة السعودية وملك مصر في صراع مرير لإعادة مؤسسة الخلافة انطلاقاً من قاعدة سياسية عربية. أما بعد الاستقلال، فقد عصفت خلافات كبيرة بين الدول العربية الهامة للزعامة على كتلة الدول العربية المنضوية في جامعة الدول العربية؛ هذا بالإضافة إلى قضايا ترسيم الحدود بين الكيانات العربية الجديدة التي أنتجت قضية الصحراء الإسبانية سابقاً من بين قضايا أخرى متعدّدة تمَّت تسويتها على مر السنين دون ضجة.
أما أهم عنصر للمناحرة بين الأنظمة العربية، فقد أصبح الانقسام بين أنظمة تقدمية تمارس سياسات اقتصادية معيَّنة لنشر التعليم والصحة في مجتمعاتها وتقوم بالتأميمات وبالحدّ من الحريات الاقتصادية وتأييد حركات التحرر العربية وغير العربية من جهة؛ والأنظمة المحافِظة القريبة من مراكز القرار في الولايات المتحدة والمتحالِفة معها والتي تمارس سياسات اقتصادية تعتمد النظام الرأسمالي والمبادرة الفردية والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية، من جهة أخرى، وتتكل هذه الأخيرة على معونات الدول الغربية، بينما تتكل الأنظمة التقدمية الطابع على معونات المعسكر الاشتراكي. وكما هو معلوم، ودون الإطالة في هذا الموضوع، فإنَّ نتائج الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 بدلاً من أن تُتَرْجَم نصراً مبيناً، أدَّت إلى مزيد من احتلال الأراضي العربية من قبَل إسرائيل والفراق بين مصر وسوريا وانقسام عربي متجدّد بين أنظمة الصمود والتصدي وأنظمة مهادنة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، ممّا أفسح المجال أمام السلام المنفرد بين مصر وإسرائيل، تلاه مباشرةً وصول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت عام 1982 لاقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من الأراضي اللبنانية وإقامة نظام يسيطر عليه حزب الكتائب المتحالف مع المحور الصهيوني ـ الأميركي في حينه.
وكلما ظهرت بشكل مفجع علامات الانقسام الحادة بين الأنظمة العربية، توسّعت دائرة نفوذ رؤية العالم بالمنظار الإسلامي المتشدّد، بلْ والتكفير في بعض صيَغه كبديل للتعاضد العضوي بين المجتمعات العربية. وهذا بدوره خلق قلاقل داخلية في العديد من المجتمعات، حيث أصبحت أجهزة الحكم تقمع وتسجن قيادات تلك الحركات الدينية بعد أن كانت قد شجعتها في بسط نفوذها للقضاء على النفوذ الناصري العروبي الطابع والدنيوي.
الإشكاليات الداخلية، أعطيت بعداً إقليمياً ودولياً عندما تشابكت مع إشكاليات خارجية، يستعرضها الباحث جورج قرم في ما يلي:
2) استيراد الإشكاليات الخارجية
هناك نوعان من الإشكاليات المستورَدة لا تقــل الأولى خطورةً عن الثانية، بلْ هي المدخل إلى استيراد النوع الثاني من الإشكاليات الخارجية. إنَّما قبل استعراض هذه الإشكاليات، لا بدَّ من وصف كيفية انتشارها في الثقافة العربية.
أ ـ مراحل انتشار الإشكاليات
والمرجعيات الغربية الطابع في الوطن العربي
تأثَّرت النخب العربية إلى أبعد الحدود بالإشكاليات الفلسفية التي أنتجتها بكثافة الأدبيات الأوروبية ابتداءً من القرن السادس عشر. لكن يجب أن نفرّق بين مرحلتيْن مختلفتيْن من التأثر بالإشكاليات الأوروبية.
ففي المرحلة الأولى التي بدأت مع رحلة رفاعة رافع الطهطاوي عام 1826 إلى باريس، انحصر التأثر بالفلسفة السياسية الغربية على نخــبة قليلة من علماء الدين وبعض المهتمين بالشأن العام من مقاطعات عربية مختلفة، كما بدأت في المغرب العربي بالنشاط الفكري لخير الدين التونسي (1820-1889) أو خير الدين باشا والشيخ بن باديس في الجزائر (1889-1940). وقد كانت مرحلة لفت فيها انتباه هذه النخبة العربية المنجزات السياسية والاقتصادية ومبادئ فسلفة التنوير التي كانت تقف وراءها، وقد ظهرت سجالات مهذبة وراقية بين شخصيات هذه النخبة حول ما يمكن استيراده من أنماط العلاقات الاجتماعية والمؤسسات السياسية المرافِقة لها التي أمَّنت تقدّم وازدهار المجتمعات الأوروبية، وما قد يخالف منها التعاليم الدينية أو التقاليد الراسخة. لكن في الإجمال، لم يظهر في هذه المرحلة أي رفض شامل لإنجازات أوروبا وما يرافقها من تحسُّن اقتصادي واجتماعي وليبرالية سياسية، سواءً تعلَّق الأمر بقضايا المرأة ووجودها الناشط في المجتمع، أو ما تعلَّق بمبدأ الانتخابات، وتراجع سلطة الملوك واستبدادهم، وكذلك تحسُّن وضع الفئات الشعبية عبر نشر التربية واهتمام الدولة والمجتمع المدني بالرعاية الاجتماعية للفئات الفقيرة والمحدودة الدخل (...)
أما في المرحلة الثانية، ابتداءً من مرحلة استقلال الأقطار، أصبحت الأنظمة التربوية العربية تتوسع بشكل كبير. وقد دخلت العلوم الإنسانية في برامج الجامعات وفي معظم الأحيان أتت بشكل جاهز ومعلَّب من برامج التعليم في أوروبا أو في الولايات المتحدة؛ هذا بالإضافة إلى الأعداد المتزايدة من الطلاب العرب الذين تمَّ إرسالهم إلى الخارج للدراسة في الجامعات الأوروبية أو الأميركية المشهورة، وكذلك في جامعات الاتحاد السوفياتي أو دول أوروبا الشرقية الإشتراكية.
إنَّ هذا التطور الخطير لم يرافقه أي جهد داخلي نقدي لتكييف البرامج في العلوم الإنسانية لحاجيات وظروف البيئة العربية المحلية ومسارها التاريخي. وقد انبهر العديد من الطلاب العرب المتخرجين من الجامعات المحلية أو الأجنبية ببريق الفلسفات الأوروبية المنشأ. وتم اعتماد الإشكاليات المطروحة في هذه الفلسفات والنظريات الاقتصادية والسياسية والسوسيولوجية والدينية المتفرعة عنها دون أية نظرة نقدية لها.
ب ـ أهم الإشكاليات الفلسفية ـ التاريخية التي أثَّرت على الخلافات الداخلية العربية
تفاعلات إشكالية الأصالة والحداثة
وفي نظرنا أنَّ أخطر ما أُدْخِل في الثقــافة العــربية خلال هذه المرحلة هو الإشكالية بين الحداثة والأصالة التي مزَّقــت الفكر الأوروبي خلال القرن التاسع عشر وأنتجت العديد من الأعمال الهذيانية الطابع في الثقافة الأوروبية، وهي أصبـحت جزءاً محورياً من ثقافة النخبة العربية ولا سيّما عندما يتعـلَّق الأمر بفلسفة هيغيل أم ماركس أم نيتشه أم فيبير، هذه الأسـماء الكبيرة التي خيَّمت على الإنتاج الفلسفي الأوروبي وانتـشاره عالمياً. وبطبيعة الحال أنَّ مفهوم الأصالة الذي لم يكن موجوداً في الكتابات العربية أساساً، أخذ ينتشر بسرعة فائقة في كل الأدبــيات العــربية، خاصةً السياسية منها، والروائية أيضاً. وقد أصبحت الأصالة ترمز إلى الحفاظ على التقاليد والقيَم الدينــية كرابــط مجتمعي قوي أمام الأثر التفتيتي للحداثة، أيْ التغـيير المتسارع الناتج عن تغييرات اقتصادية واجتماعية عملاقة، أتت مع النفوذ الأوروبي المتعاظم، ومن ثم من الثورات الشعبية والعسكرية، ومن ثروة النفط المفاجئة ومن المعونات الخارجية السخية وعوامل أخرى لا حاجة إلى ذكرها هنا.
وهذا التطور الخطير ليس محصوراً بالمنطقة العربية، بلْ قد تم تصديره من أوروبا إلى سائر أنحاء العالم بدءاً من روسيا حيث انقسمت النخبة الروسية في القرن التاسع عشر انقساماً خطيراً بين أنصار الأصالة السلافية (Slavophile) والحفاظ على الديانة المسيحية الأرثوذكسية المذهب والتراتبية الاجتماعية التقليدية من جهة، وأنصار الفرْنَجة أو الأوْرَبة أو الاستغراب (Occidentaux)، من جهة أخرى؛ كما تمّ تصديرها إلى الشرق الأقصى من اليابان إلى الصين إلى الهند.
إنَّ تداول هذه الإشـكالية قد سبب العديد من الانقــسامات في كل الــدول خارج أوروبا التي تداولت فيها عبر تحديث الأنظمة التعليمية في العلوم الإنسانية واستيراد البرامج التعليمية. والجدير بالإشارة إليه هنا أنَّ كلمة «حداثة» ومحتوياتها الواقعية أو التخــيّلية يحيــط بها في الفلـسفات الأوروبية العديد من المشاعر والعواطف السلبية أو الإيجابية حولها، وبالتالي السلبية أو الإيجابية تجاه الماضي بكل مكوِّناته من ناحيــة التراتبيات الاجتماعية والأنظمة السياسية ودور الدين في المجتمع كعامل استقرار وشرعية لأنظمة الحكم الملكية، وكذلك الحفاظ على الأنساق المعمارية القديمة والبيئة الريفية.
فلنرَ الآن كيف تسببت تلك الإشكاليات الأوروبية بانقسامات كبيرة بين النخب العربية وسَّعت من نطاق الانقسامات الداخلية المصدر، خاصةً أنَّ إشكاليتيْن فرعيتيْن تفرّعتا في الثقافة العربية عن إشكالية الأصالة والحداثة، وما إشكالية فصل الحيّز الديني عن الحيّز المدني أو الدنيوي وإشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام.
والغريب في الأمر أنَّ الثقافة العربية خلال مسارها القديم لم تطوِّر أي نوع من الشعور بالتناقض بين القديم والجديد أو شعور الخوف من التطورات الدنيوية الكبيرة. والبرهان على ذلك التعريف الرائع الذي أعطاه العلاَّمة ابن خلدون للحداثة بمعنى مرور المراحل التاريخية وحصول التغيير، وهو تعريف واقعي موضوعي لا يعتمد إثارة العواطف عندما قال: «إنَّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنَّما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال»(1). كما أنَّ بالنسبة إلى ابن خلدون «إذا تبدَّلت الأحوال جملة، فكأنّما تبدل الخلق من أصله وتحوِّل العالم بأسره، وكأنَّه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدَث» (2). وما أوضح هذا التعريف للحداثة وهو تعريف حيادي منهجي لا يتأثَّر عند ابن خلدون بالتقييم الإيجابي أو السلبي حول تطور الزمن، ذلك أنَّ هذا التقييم هو الذي يؤدي اليوم إلى الخلافات العميقة بين العرب، كما أدّى في الماضي إلى الخلافات بين الأوروبيين أنفسهم، تجسَّد في كره متبادل ومتأجِّج بين أنصار الثورة الفرنسية وفلسفة الأنوار، وبين من كان يرى ضرورة بالتمسك بالقديم ومعتقداته ومؤسساته وتراتبياته الاجتماعية والسياسية ومعتقداته الدينية - التشريعية والمؤسساتية الجامعة الثابتة. وهذا أيضاً ما ولَّد في قارات أخرى الفتن الفتاكة كما حصل في روسيا مع الثورة البولشيفية، أو في الصين مع ثورة ماوتسي تونغ، وأيضاً في عالمنا العربي مع الانقلابات العسكرية والفكر الثوري العربي وحركات معادية ومعاكسة للتغيير الثوري.
ويظهر جلياً من كلام ابن خلدون أنَّ العرب تبدلت لديهم الأحوال بشكل كامل وتحوَّل العالم حولهم بأسره. وبالفعل، كما يزيد ابن خلدون، واجه العرب بانهيار السلطنة العثمانية وتأكيد تفوّق أوروبا العســكري والتقني والاقتــصادي «عالماً محدَثاً». ولكن يبدو أنَّ العرب لم يعوا بالشكل الكافي أنَّ عالمهم القديم قد انهار تماماً وخلال بضعة عقود، وأنَّهم قد أُدْخِلوا مجدداً سيْرورة التاريخ التي كانوا قد خرجوا منها منذ نهاية الحروب الصليبية، عندما قبلوا بشكل نهائي بأنظمة حكم يمسكها الفاتحون المسلمون من الأصل التركي (المماليك ومن ثم العثمانيون).
وأمام هذا التغيير الشامل بدأت تمزقات الوجدان العربي بين الحماسة إلى ركب الحضارة الأوروبية التي أصبحت كونية الطابع ورفضها بأشكال مختلفة، وبشكل خاص عبر التقوقع على الهوية الدينية، وهي التي كانت قد منحت شرعية الحكم طوال قرون للمماليك والعثمانيين، بينما كان الأوروبيون الذين سيطروا على الديار العربية من بعد الحكم العثماني هم من ديانة مختلفة. ولذلك كان من الطبيعي أن يتجسَّد شعور الرفض للحكم الأوروبي لدى فئات معيَّنة من الشعب كما من النخبة المقاومة للحكم الأوروبي عن طريق إبراز اختلاف الهوية الدينية مع المستعمر وليس إبراز اختلاف الهوية القومية.
وقد رأى البعض من المثقفين العرب في حينه أنَّ ثورة الشريف حسين ضد الحكم العثماني بتحريض من بريطانيا نوعاً من الخيانة ضد الأمة في مفهومها الديني. وليس من المستغرب أن نرى إلى اليوم استعمال مفهوم الأمة مبهماً وغير دقيق، إذْ يشير في بعض الخطابات إلى الأمة بالمعنى الروحي والديني التي تشمل كل المسلمين في العالم، وإلى الأمة القومية التي تشتمل على العرب وخواصهم اللغوية والحضارية، وفي بعض الأحيان وتحت تأثير الأدبيات الأنتروبولوجية والإثنية الطابع أو الاستشراقية، والتركيز على الهويات الفرعية، العشائرية والقبلية أو المناطقية أو المذهبية أو العرقية.
وفي الحقيقة، أنا لا أفهم ماذا تعني الأصالة إذا أصبحت انحطاطاً وجموداً والنظرة إلى الوراء، أيْ إلى عهود ذهبية ولَّت بلا رجعة؛ فالشخص الذي يعيش في الفقر والأمية والبطالة لا يعطي أية أهمية للأصالة كما تراها النخب المثــقّفة المعادِيـة للتغيير لأسباب مختلفة. ولهذا السبب، لا يمكن تجنُّب مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية وما تقتضيه من تغيير في بعض العادات الاجتماعية في أي مجتمع كان. غير أنَّ المحتوى الديني في مفهوم الأصالة قد تجذَّر عند بعض العرب من خلال توظيف الدين في المعترك السياسي الحديث بجعل المجتمع الإسلامي الأوَّل، أي مجتمع المدينة أيام النبي، النموذج الذي يجب أن نعود لنتقيَّد به بكل حذافيـره الموروثة، متخيَّلةً كانت أم حقيقية؛ مع الإشارة إلى أنه مهما تطورت أساليب علم التاريخ، فلا أحد من الأحياء كان موجــوداً في حينه للتأكُّد من صحة أقوال النصوص التاريخية القديمة والنصوص التراثية الطابع. والمهم هنا أن يحافظ الإنسان على تماسُك هويته، وهذا التماسك مستحيل حيت تتفكك الهوية إلى عناصر مختلفة متناقضة بسبب تمزقات فلسفية تاريخية، وهذا هو ما يميِّز سلـباً الوضع العربي اليوم.
2) استيراد الإشكاليات الخارجية
هناك نوعان من الإشكاليات المستورَدة لا تقــل الأولى خطورةً عن الثانية، بلْ هي المدخل إلى استيراد النوع الثاني من الإشكاليات الخارجية. إنَّما قبل استعراض هذه الإشكاليات، لا بدَّ من وصف كيفية انتشارها في الثقافة العربية.
أ ـ مراحل انتشار الإشكاليات
والمرجعيات الغربية الطابع في الوطن العربي
تأثَّرت النخب العربية إلى أبعد الحدود بالإشكاليات الفلسفية التي أنتجتها بكثافة الأدبيات الأوروبية ابتداءً من القرن السادس عشر. لكن يجب أن نفرّق بين مرحلتيْن مختلفتيْن من التأثر بالإشكاليات الأوروبية.
ففي المرحلة الأولى التي بدأت مع رحلة رفاعة رافع الطهطاوي عام 1826 إلى باريس، انحصر التأثر بالفلسفة السياسية الغربية على نخــبة قليلة من علماء الدين وبعض المهتمين بالشأن العام من مقاطعات عربية مختلفة، كما بدأت في المغرب العربي بالنشاط الفكري لخير الدين التونسي (1820-1889) أو خير الدين باشا والشيخ بن باديس في الجزائر (1889-1940). وقد كانت مرحلة لفت فيها انتباه هذه النخبة العربية المنجزات السياسية والاقتصادية ومبادئ فسلفة التنوير التي كانت تقف وراءها، وقد ظهرت سجالات مهذبة وراقية بين شخصيات هذه النخبة حول ما يمكن استيراده من أنماط العلاقات الاجتماعية والمؤسسات السياسية المرافِقة لها التي أمَّنت تقدّم وازدهار المجتمعات الأوروبية، وما قد يخالف منها التعاليم الدينية أو التقاليد الراسخة. لكن في الإجمال، لم يظهر في هذه المرحلة أي رفض شامل لإنجازات أوروبا وما يرافقها من تحسُّن اقتصادي واجتماعي وليبرالية سياسية، سواءً تعلَّق الأمر بقضايا المرأة ووجودها الناشط في المجتمع، أو ما تعلَّق بمبدأ الانتخابات، وتراجع سلطة الملوك واستبدادهم، وكذلك تحسُّن وضع الفئات الشعبية عبر نشر التربية واهتمام الدولة والمجتمع المدني بالرعاية الاجتماعية للفئات الفقيرة والمحدودة الدخل (...)
أما في المرحلة الثانية، ابتداءً من مرحلة استقلال الأقطار، أصبحت الأنظمة التربوية العربية تتوسع بشكل كبير. وقد دخلت العلوم الإنسانية في برامج الجامعات وفي معظم الأحيان أتت بشكل جاهز ومعلَّب من برامج التعليم في أوروبا أو في الولايات المتحدة؛ هذا بالإضافة إلى الأعداد المتزايدة من الطلاب العرب الذين تمَّ إرسالهم إلى الخارج للدراسة في الجامعات الأوروبية أو الأميركية المشهورة، وكذلك في جامعات الاتحاد السوفياتي أو دول أوروبا الشرقية الإشتراكية.
إنَّ هذا التطور الخطير لم يرافقه أي جهد داخلي نقدي لتكييف البرامج في العلوم الإنسانية لحاجيات وظروف البيئة العربية المحلية ومسارها التاريخي. وقد انبهر العديد من الطلاب العرب المتخرجين من الجامعات المحلية أو الأجنبية ببريق الفلسفات الأوروبية المنشأ. وتم اعتماد الإشكاليات المطروحة في هذه الفلسفات والنظريات الاقتصادية والسياسية والسوسيولوجية والدينية المتفرعة عنها دون أية نظرة نقدية لها.
ب ـ أهم الإشكاليات الفلسفية ـ التاريخية التي أثَّرت على الخلافات الداخلية العربية
تفاعلات إشكالية الأصالة والحداثة
وفي نظرنا أنَّ أخطر ما أُدْخِل في الثقــافة العــربية خلال هذه المرحلة هو الإشكالية بين الحداثة والأصالة التي مزَّقــت الفكر الأوروبي خلال القرن التاسع عشر وأنتجت العديد من الأعمال الهذيانية الطابع في الثقافة الأوروبية، وهي أصبـحت جزءاً محورياً من ثقافة النخبة العربية ولا سيّما عندما يتعـلَّق الأمر بفلسفة هيغيل أم ماركس أم نيتشه أم فيبير، هذه الأسـماء الكبيرة التي خيَّمت على الإنتاج الفلسفي الأوروبي وانتـشاره عالمياً. وبطبيعة الحال أنَّ مفهوم الأصالة الذي لم يكن موجوداً في الكتابات العربية أساساً، أخذ ينتشر بسرعة فائقة في كل الأدبــيات العــربية، خاصةً السياسية منها، والروائية أيضاً. وقد أصبحت الأصالة ترمز إلى الحفاظ على التقاليد والقيَم الدينــية كرابــط مجتمعي قوي أمام الأثر التفتيتي للحداثة، أيْ التغـيير المتسارع الناتج عن تغييرات اقتصادية واجتماعية عملاقة، أتت مع النفوذ الأوروبي المتعاظم، ومن ثم من الثورات الشعبية والعسكرية، ومن ثروة النفط المفاجئة ومن المعونات الخارجية السخية وعوامل أخرى لا حاجة إلى ذكرها هنا.
وهذا التطور الخطير ليس محصوراً بالمنطقة العربية، بلْ قد تم تصديره من أوروبا إلى سائر أنحاء العالم بدءاً من روسيا حيث انقسمت النخبة الروسية في القرن التاسع عشر انقساماً خطيراً بين أنصار الأصالة السلافية (Slavophile) والحفاظ على الديانة المسيحية الأرثوذكسية المذهب والتراتبية الاجتماعية التقليدية من جهة، وأنصار الفرْنَجة أو الأوْرَبة أو الاستغراب (Occidentaux)، من جهة أخرى؛ كما تمّ تصديرها إلى الشرق الأقصى من اليابان إلى الصين إلى الهند.
إنَّ تداول هذه الإشـكالية قد سبب العديد من الانقــسامات في كل الــدول خارج أوروبا التي تداولت فيها عبر تحديث الأنظمة التعليمية في العلوم الإنسانية واستيراد البرامج التعليمية. والجدير بالإشارة إليه هنا أنَّ كلمة «حداثة» ومحتوياتها الواقعية أو التخــيّلية يحيــط بها في الفلـسفات الأوروبية العديد من المشاعر والعواطف السلبية أو الإيجابية حولها، وبالتالي السلبية أو الإيجابية تجاه الماضي بكل مكوِّناته من ناحيــة التراتبيات الاجتماعية والأنظمة السياسية ودور الدين في المجتمع كعامل استقرار وشرعية لأنظمة الحكم الملكية، وكذلك الحفاظ على الأنساق المعمارية القديمة والبيئة الريفية.
فلنرَ الآن كيف تسببت تلك الإشكاليات الأوروبية بانقسامات كبيرة بين النخب العربية وسَّعت من نطاق الانقسامات الداخلية المصدر، خاصةً أنَّ إشكاليتيْن فرعيتيْن تفرّعتا في الثقافة العربية عن إشكالية الأصالة والحداثة، وما إشكالية فصل الحيّز الديني عن الحيّز المدني أو الدنيوي وإشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام.
والغريب في الأمر أنَّ الثقافة العربية خلال مسارها القديم لم تطوِّر أي نوع من الشعور بالتناقض بين القديم والجديد أو شعور الخوف من التطورات الدنيوية الكبيرة. والبرهان على ذلك التعريف الرائع الذي أعطاه العلاَّمة ابن خلدون للحداثة بمعنى مرور المراحل التاريخية وحصول التغيير، وهو تعريف واقعي موضوعي لا يعتمد إثارة العواطف عندما قال: «إنَّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنَّما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال»(1). كما أنَّ بالنسبة إلى ابن خلدون «إذا تبدَّلت الأحوال جملة، فكأنّما تبدل الخلق من أصله وتحوِّل العالم بأسره، وكأنَّه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدَث» (2). وما أوضح هذا التعريف للحداثة وهو تعريف حيادي منهجي لا يتأثَّر عند ابن خلدون بالتقييم الإيجابي أو السلبي حول تطور الزمن، ذلك أنَّ هذا التقييم هو الذي يؤدي اليوم إلى الخلافات العميقة بين العرب، كما أدّى في الماضي إلى الخلافات بين الأوروبيين أنفسهم، تجسَّد في كره متبادل ومتأجِّج بين أنصار الثورة الفرنسية وفلسفة الأنوار، وبين من كان يرى ضرورة بالتمسك بالقديم ومعتقداته ومؤسساته وتراتبياته الاجتماعية والسياسية ومعتقداته الدينية - التشريعية والمؤسساتية الجامعة الثابتة. وهذا أيضاً ما ولَّد في قارات أخرى الفتن الفتاكة كما حصل في روسيا مع الثورة البولشيفية، أو في الصين مع ثورة ماوتسي تونغ، وأيضاً في عالمنا العربي مع الانقلابات العسكرية والفكر الثوري العربي وحركات معادية ومعاكسة للتغيير الثوري.
ويظهر جلياً من كلام ابن خلدون أنَّ العرب تبدلت لديهم الأحوال بشكل كامل وتحوَّل العالم حولهم بأسره. وبالفعل، كما يزيد ابن خلدون، واجه العرب بانهيار السلطنة العثمانية وتأكيد تفوّق أوروبا العســكري والتقني والاقتــصادي «عالماً محدَثاً». ولكن يبدو أنَّ العرب لم يعوا بالشكل الكافي أنَّ عالمهم القديم قد انهار تماماً وخلال بضعة عقود، وأنَّهم قد أُدْخِلوا مجدداً سيْرورة التاريخ التي كانوا قد خرجوا منها منذ نهاية الحروب الصليبية، عندما قبلوا بشكل نهائي بأنظمة حكم يمسكها الفاتحون المسلمون من الأصل التركي (المماليك ومن ثم العثمانيون).
وأمام هذا التغيير الشامل بدأت تمزقات الوجدان العربي بين الحماسة إلى ركب الحضارة الأوروبية التي أصبحت كونية الطابع ورفضها بأشكال مختلفة، وبشكل خاص عبر التقوقع على الهوية الدينية، وهي التي كانت قد منحت شرعية الحكم طوال قرون للمماليك والعثمانيين، بينما كان الأوروبيون الذين سيطروا على الديار العربية من بعد الحكم العثماني هم من ديانة مختلفة. ولذلك كان من الطبيعي أن يتجسَّد شعور الرفض للحكم الأوروبي لدى فئات معيَّنة من الشعب كما من النخبة المقاومة للحكم الأوروبي عن طريق إبراز اختلاف الهوية الدينية مع المستعمر وليس إبراز اختلاف الهوية القومية.
وقد رأى البعض من المثقفين العرب في حينه أنَّ ثورة الشريف حسين ضد الحكم العثماني بتحريض من بريطانيا نوعاً من الخيانة ضد الأمة في مفهومها الديني. وليس من المستغرب أن نرى إلى اليوم استعمال مفهوم الأمة مبهماً وغير دقيق، إذْ يشير في بعض الخطابات إلى الأمة بالمعنى الروحي والديني التي تشمل كل المسلمين في العالم، وإلى الأمة القومية التي تشتمل على العرب وخواصهم اللغوية والحضارية، وفي بعض الأحيان وتحت تأثير الأدبيات الأنتروبولوجية والإثنية الطابع أو الاستشراقية، والتركيز على الهويات الفرعية، العشائرية والقبلية أو المناطقية أو المذهبية أو العرقية.
وفي الحقيقة، أنا لا أفهم ماذا تعني الأصالة إذا أصبحت انحطاطاً وجموداً والنظرة إلى الوراء، أيْ إلى عهود ذهبية ولَّت بلا رجعة؛ فالشخص الذي يعيش في الفقر والأمية والبطالة لا يعطي أية أهمية للأصالة كما تراها النخب المثــقّفة المعادِيـة للتغيير لأسباب مختلفة. ولهذا السبب، لا يمكن تجنُّب مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية وما تقتضيه من تغيير في بعض العادات الاجتماعية في أي مجتمع كان. غير أنَّ المحتوى الديني في مفهوم الأصالة قد تجذَّر عند بعض العرب من خلال توظيف الدين في المعترك السياسي الحديث بجعل المجتمع الإسلامي الأوَّل، أي مجتمع المدينة أيام النبي، النموذج الذي يجب أن نعود لنتقيَّد به بكل حذافيـره الموروثة، متخيَّلةً كانت أم حقيقية؛ مع الإشارة إلى أنه مهما تطورت أساليب علم التاريخ، فلا أحد من الأحياء كان موجــوداً في حينه للتأكُّد من صحة أقوال النصوص التاريخية القديمة والنصوص التراثية الطابع. والمهم هنا أن يحافظ الإنسان على تماسُك هويته، وهذا التماسك مستحيل حيت تتفكك الهوية إلى عناصر مختلفة متناقضة بسبب تمزقات فلسفية تاريخية، وهذا هو ما يميِّز سلـباً الوضع العربي اليوم.
إشكالية فصل الحيِّز الديني والروحي
عن الحيِّز الزمني
أصبح التقوقع على الهوية الدينية، أكثر تحجُّراً كونه الملجأ الأخير لهوية عروبية حضارية مفقودة، وبسبب الارتدادات التي خلقها استيراد إشكالية الفصل بين الروحي والزمني الأوروبية الطابع في المجادلات حول الهوية المجتمعية للعرب. وهذه الإشكالية التي تطوّرت من وراء خصوصية تاريخ الكنيسة الرومانية في أوروبا التي كانت قد سيطرت على جميع أنواع وأشكال السلطات الزمنية لا تمت بصلة إلى التاريخ العربي حيث لا كنيسة في الإسلام، والإشكالية العربية الصحيحة في مجال علاقة الأمور الدينية بالأمور السياسية تكمن في التأسيس التام لحرية الاجتهاد وحرية التعامل مع النصوص الدينية الطابع، وهي أم الحريات التي منها تتفرّع كل الحريات الأخرى.
وفي هذا الخصوص، لا بدَّ من الإشارة إلى الإشكالية المفتعَلة التي يتخبَّط فيها العديد من المثقفين العرب منذ عقود من دون جدوى، وهي إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام التي أصبحت تسجن الفكر في حلقة مفرغة متكررة ورتيبة. ذلك أنَّ مجرد طرح مثل هذه الإشكالية يفتح الباب أمام تناقض مفتعل بين الانتماء الدنيوي الطبيعي للشعوب العربية إلى حيِّز لغوي وثقافي وتاريخي مشترك من جهة، والإيمان الديني والعقيدة الروحية التي هي بطبيعة الحال الإسلام لدى غالبية العرب، من جهة أخرى؛ إنَّما المهم هنا ليس تأكيد شخصية إسلامية باستمرار كنقيض للشخصية اليهودية - المسيحية التي يدّعيها الغرب اليوم، بلْ المهم تأكيد حرية الاجتهاد كما ذكرت، وبالتالي قبول تعددية المذاهب الإسلامية وليس استهجانها أو اتهام البعض منها بالكفر والهرطقة، مما يكرّس أوضاعاً طائفية متوترة، بلْ متفجِّرة في أقطار عديدة من الوطن العربي كما تشهده الحال بكل وضوح في العراق بشكل خاص وفي لبنان وفي أقطار أخرى تتعايش فيها مذاهب إسلامية مختلفة.
والجدير بالذكر في هذه القضايا، أنَّ الدولة الإسلامية كانت تاريخياً دولة مدنية يحكمها مدنيون، وإن كانت تستمد قدرتها وشرعيتها من المبادئ الأخلاقية الإسلامية الجديدة. وفي معظم الأحيان كانت فئة العلماء والمراجع الدينية خاضعة للسلطة المدنية على خلاف التاريخ الأوروبي المسيحي حيث كان الإكليروس المسيحي مهيمناً على السلطات السياسية المدنية. ولا بد هنا من الإشارة إلى أنَّه في المئتيْ سنة الماضية، قد تمّ تحديث جميع الأنظمة القانونية في العالم العربي، مع استئناءات قليلة مثل وضع المملكة العربية السعودية والسودان، بحيث أصبحت الشريعة الإسلامية تسود بشكل رئيسي في ميادين محصورة مثل الأحوال الشخصية، وهي مختلفة بين مذهب إسلامي وآخر. إنَّ سعيْ البعض من الأنظمة العربية إلى تقوية موقع الشريعة الإسلامية، أو الادعاء بالحكم السياسي حسب نص القرآن الكريم، ليس إلاَّ نتيجة الوقوع في الإشكالية السلبية التي تطرح كقضية أولى في الوجدان العربي ضرورة العودة إلى الأصالة والابتعاد عن الحداثة، كونها حداثة مسيحية غربية، وذلك في سعي إلى تعزيز شرعية حكم ناقصة أساساً في العديد من الأقطار العربية.
أما العلاقة بين العروبة والإسلام فلا مشكلة فيها، لأن الروحانيات والعقيدة الدينية لأغلبية العرب مستمدة من التنزيل الإلهي الذي تجسَّد في القرآن الكريم، لكنَّ هذا لا يجعل من العرب كتلة غير متميّزة حضارياً ولغوياً وتاريخياً عن سائر الشعوب التي تدين بالإسلام كدين، وكل واحد منها له تاريخه وحضارته ولغته الخاصة، بدايةً من تركيا والشعوب الناطقة باللغة التركية وانتهاءً بمسلمي تايلندا والفيليبين ومروراً بالشعوب الناطقة باللغة العجمية أو إحدى اللغات المتفرِّعة عنها. وإذا اعتمدنا معيار قومية إسلامية لتثبيت الوجدان العربي، فإنَّ الشعوب العربية تذوب في كتلة بشرية تعدادها مليار ونصف مليار من البشر ذوي الأهواء والخصائص القومية والحضارية المختلفة، وهذا ما يؤبِّد وضع العرب، وهم أقلية في هذه الكتلة، كشعب هامشي لا دور له في صناعة التاريخ.
نحو نظام إدراكي ومعرفي عربي
لن أطيل الحديث هنا لتبرير ضرورة بناء منظومة إدراكية معرفية متكيِّفة مع التحديات التي نجابهها كعرب. فقد كتبْتُ العديد من الدراسات والمقالات في هذا الخصوص، وآخرها بمناسبة ذكرى المثقف الكبير عبد الله عبد الدائم الذي كان يدعو باستمرار إلى تطوير مثل هذه المنظومة الثقافية والمعرفية الكبيرة. ولكنَّ نجاح هذه الدعوة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمل لتحقيق الشروط الآنفة الذكر ضمن إطار الإيمان بوحدة التاريخ والمصير للمجتمعات العربية المختلفة، وضرورة إطلاق حركة نهضوية جديدة تعيد التواصل بنهضة القرن التاسع عشر التي محِيَت من الذاكرة، وتعيد كذلك التواصل مع العبقرية العربية التي بنت إحدى الحضارات الكبيرة في العالم، وهي الحضارة الإسلامية التي اشتُهِرَت بقدرتها على الإبداع في جميع المجالات العلمية والأدبية والفنية، وعلى التفاعل مع الحضارات الأخرى المجاورة، البيزنطية والعجمية والفرنجية والهندية، واستيعابها واكتساب معارفها وتوطينها. وهي اشتُهِرَت كذلك بقبول التعددية العرقية والدينية والمذهبية. وقد لعب كل من الخلافة الأندلسية والعباسية دوراً طليعياً في إرساء مقوِّمات تلك الحضارة التي أصبحت اليوم من الماضي بعد أن اختلفت كل الظروف والأزمنة، كما يقول ابن خلدون. فعلينا أن نعيد بناء شخصيتنا العربية ونظامنا الإدراكي ومعارفنا على ضوء كل التطورات التي حصلت وألاَّ نضيِّع الجهود في مسعى تخيُّلي إلى العودة إلى أولى حقبات ظهور الإسلام كما يفعله الفكر الأصولي المتشدد.
ومن أجل ذلك، لا بدَّ من النظر إلى قضيتيْن رئيسيتيْن، إحداهما تتعلق بما تحتاج إليه أنظمتنا التربوية من إعادة نظر شاملة، سواءً في المناهج أو في طرق إدارتها؛ والأخرى تتجسَّد في ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية التي أصبحت مفقودة تماماً من المحيط إلى الخليج كما تم ذكره سابقاً. وإذا كانت القضية التربوية مدار دراسات عديدة بما فيها دراسات حول طرق استيطان العلم والمعرفة والتقنيات في المجتمع العربي، فإنَّ قضية انعدام العدالة في توزيع الثروات والمداخيل قد أصبحت غائبة تماماً عن المشهد الفكري العربي، وذلك بعد أن اجتاحت موجة النيوليبرالية العربية تعليم الاقتصاد في جامعاتنا العربية أو بعد أن درس الجيل الشاب من العرب في الجامعات الاميركية والأوروبية مبادئ النيو ليبرالية وتعلَّق بها. فاللُّحمة المجتمعية لا يمكن أن تتحقق فقط عبر التعليم والنهضة الثقافية، إنَّما يجب أن تكون مستندة إلى آليات عادلة في توزيع الدخل بين كل الفئات الاجتماعية. وفي هذا الخصوص، لا بدَّ من التذكير بالوضع التناقضي الفضائحي في سائر المجتمعات العربية حيث نرى معدلات بطالة عالية للغاية عند العنصر الشاب، وبشكل خاص المتخرّج من جامعاتنا، ممّا يسبب نسبة هجرة أدمغة أعلى من أي بلد آخر. هذا يعني أننا في وضع نزيف بشري يحول بدوره دون بناء المنظومة الإدراكية والمعرفية العربية.
إنَّ المستقبل العربي مجهول وغامض وملتبس. لا أحد يعلم من المحيط إلى الخليج، إلى أين نحن سائرون ولماذا نبقى بهذه الحالة من التشتت والتمزق وفقدان العدل والتنمية في جميع أوجهها. ومرد ذلك في نظرنا إلى غياب المنظومة المعرفية والإدراكية الجامعة، المتكيِّفة مع التحديات الموصوفة هنا، والمعالِجة لأسباب الإحباط والوجدان المشرذم والمتناقض بين اتجاهات متناقضة. وفي استمرار غياب بناء المعرفة والإدراك السليم وأنظمة قيمية تستوعب تحديات العصر وتستعيد عبقرية الماضي المنسية، فليس لدينا أية إمكانية لتحديد أهداف يجتمع حولها العرب، قطرياً كما قومياً، لإعادة إثبات وجودهم التاريخي وإعادة تكوين حضارتهم الخاصة بهم. ومن الواضح أنَّ المجتمعات العربية بمعظم شرائحها تعيش اليوم في غياب مثل هذه الأهداف، وهذا ما فجّر الحركات التكفيرية التي تمارس العنف الأعمى في مواقع عديدة من الوطن العربي ضد المواطنين العرب الأبرياء، أكثر مما تمارسه ضد المحتلين الغزاة.
وفي المقابل، هناك نقاط مضيئة من المقاومة الفعّالة للهيمنة الأميركية ـ الصهيونية الاستبدادية على المنطقة، في فلسطين كما في لبنان، والمتجسِّدة في حركتيْ حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين، اللتيْن تحظيان بمؤازرة القطر العربي السوري والحليف الإيراني وأجزاء واسعة من الرأي العام العربي، وهما حركتان ذواتا أبعاد عديدة عقائدياً، إذْ يتوجّه خطابهما، سواءً على المستوى القطري أو القومي أو العربي أو الإسلامي.
وعلينا أن نساند تينك الحركتيْن، ليس فقط نظراً لفعاليتهما وإصرارهما على مجابهة المحور الأميركي - الصهيوني، وإعادة الكرامة إلى المواطن العربي، بل أيضاً لكيْ نساهم في خلق البيئة الفكرية التي يمكن أن تنصهر فيها مستقبلاً هاتان الحركتان لكيْ تتمكنا من تعميم روح المقاومة مهما كانت دوافعها العقائدية. وأعني بذلك بناء هذه المنظومة المعرفية والنظام الإدراكي والقيَمي المطلوب منه القضاء على أسباب التفرقة والفتنة بين العرب، وهي عديدة وفتّاكة.
وعلينا أيضاً جميعاً التعاضد في إرساء دعائم الحوار الفكري البنَّاء لأنَّ أزمة العجز العربي الفاضح خلال الثلاثين سنة الأخيرة ليست إلاَّ انعكاساً لأزمة فكر عميقة، ناتجة عن التطورات الدراماتيكية المتلاحقة على مسيرة مجتمعاتنا خلال القرنيْن الماضييْن.
وحبذا لو نصل إلى الوعيْ الكافي لخطورة استمرار مثل هذه الأزمة، فنعالجها بالجدية المطلوبة كيْ لا نستمر على طريق الوهن والخضوع إلى إرادة الآخرين الأقوياء.
عن الحيِّز الزمني
أصبح التقوقع على الهوية الدينية، أكثر تحجُّراً كونه الملجأ الأخير لهوية عروبية حضارية مفقودة، وبسبب الارتدادات التي خلقها استيراد إشكالية الفصل بين الروحي والزمني الأوروبية الطابع في المجادلات حول الهوية المجتمعية للعرب. وهذه الإشكالية التي تطوّرت من وراء خصوصية تاريخ الكنيسة الرومانية في أوروبا التي كانت قد سيطرت على جميع أنواع وأشكال السلطات الزمنية لا تمت بصلة إلى التاريخ العربي حيث لا كنيسة في الإسلام، والإشكالية العربية الصحيحة في مجال علاقة الأمور الدينية بالأمور السياسية تكمن في التأسيس التام لحرية الاجتهاد وحرية التعامل مع النصوص الدينية الطابع، وهي أم الحريات التي منها تتفرّع كل الحريات الأخرى.
وفي هذا الخصوص، لا بدَّ من الإشارة إلى الإشكالية المفتعَلة التي يتخبَّط فيها العديد من المثقفين العرب منذ عقود من دون جدوى، وهي إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام التي أصبحت تسجن الفكر في حلقة مفرغة متكررة ورتيبة. ذلك أنَّ مجرد طرح مثل هذه الإشكالية يفتح الباب أمام تناقض مفتعل بين الانتماء الدنيوي الطبيعي للشعوب العربية إلى حيِّز لغوي وثقافي وتاريخي مشترك من جهة، والإيمان الديني والعقيدة الروحية التي هي بطبيعة الحال الإسلام لدى غالبية العرب، من جهة أخرى؛ إنَّما المهم هنا ليس تأكيد شخصية إسلامية باستمرار كنقيض للشخصية اليهودية - المسيحية التي يدّعيها الغرب اليوم، بلْ المهم تأكيد حرية الاجتهاد كما ذكرت، وبالتالي قبول تعددية المذاهب الإسلامية وليس استهجانها أو اتهام البعض منها بالكفر والهرطقة، مما يكرّس أوضاعاً طائفية متوترة، بلْ متفجِّرة في أقطار عديدة من الوطن العربي كما تشهده الحال بكل وضوح في العراق بشكل خاص وفي لبنان وفي أقطار أخرى تتعايش فيها مذاهب إسلامية مختلفة.
والجدير بالذكر في هذه القضايا، أنَّ الدولة الإسلامية كانت تاريخياً دولة مدنية يحكمها مدنيون، وإن كانت تستمد قدرتها وشرعيتها من المبادئ الأخلاقية الإسلامية الجديدة. وفي معظم الأحيان كانت فئة العلماء والمراجع الدينية خاضعة للسلطة المدنية على خلاف التاريخ الأوروبي المسيحي حيث كان الإكليروس المسيحي مهيمناً على السلطات السياسية المدنية. ولا بد هنا من الإشارة إلى أنَّه في المئتيْ سنة الماضية، قد تمّ تحديث جميع الأنظمة القانونية في العالم العربي، مع استئناءات قليلة مثل وضع المملكة العربية السعودية والسودان، بحيث أصبحت الشريعة الإسلامية تسود بشكل رئيسي في ميادين محصورة مثل الأحوال الشخصية، وهي مختلفة بين مذهب إسلامي وآخر. إنَّ سعيْ البعض من الأنظمة العربية إلى تقوية موقع الشريعة الإسلامية، أو الادعاء بالحكم السياسي حسب نص القرآن الكريم، ليس إلاَّ نتيجة الوقوع في الإشكالية السلبية التي تطرح كقضية أولى في الوجدان العربي ضرورة العودة إلى الأصالة والابتعاد عن الحداثة، كونها حداثة مسيحية غربية، وذلك في سعي إلى تعزيز شرعية حكم ناقصة أساساً في العديد من الأقطار العربية.
أما العلاقة بين العروبة والإسلام فلا مشكلة فيها، لأن الروحانيات والعقيدة الدينية لأغلبية العرب مستمدة من التنزيل الإلهي الذي تجسَّد في القرآن الكريم، لكنَّ هذا لا يجعل من العرب كتلة غير متميّزة حضارياً ولغوياً وتاريخياً عن سائر الشعوب التي تدين بالإسلام كدين، وكل واحد منها له تاريخه وحضارته ولغته الخاصة، بدايةً من تركيا والشعوب الناطقة باللغة التركية وانتهاءً بمسلمي تايلندا والفيليبين ومروراً بالشعوب الناطقة باللغة العجمية أو إحدى اللغات المتفرِّعة عنها. وإذا اعتمدنا معيار قومية إسلامية لتثبيت الوجدان العربي، فإنَّ الشعوب العربية تذوب في كتلة بشرية تعدادها مليار ونصف مليار من البشر ذوي الأهواء والخصائص القومية والحضارية المختلفة، وهذا ما يؤبِّد وضع العرب، وهم أقلية في هذه الكتلة، كشعب هامشي لا دور له في صناعة التاريخ.
نحو نظام إدراكي ومعرفي عربي
لن أطيل الحديث هنا لتبرير ضرورة بناء منظومة إدراكية معرفية متكيِّفة مع التحديات التي نجابهها كعرب. فقد كتبْتُ العديد من الدراسات والمقالات في هذا الخصوص، وآخرها بمناسبة ذكرى المثقف الكبير عبد الله عبد الدائم الذي كان يدعو باستمرار إلى تطوير مثل هذه المنظومة الثقافية والمعرفية الكبيرة. ولكنَّ نجاح هذه الدعوة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمل لتحقيق الشروط الآنفة الذكر ضمن إطار الإيمان بوحدة التاريخ والمصير للمجتمعات العربية المختلفة، وضرورة إطلاق حركة نهضوية جديدة تعيد التواصل بنهضة القرن التاسع عشر التي محِيَت من الذاكرة، وتعيد كذلك التواصل مع العبقرية العربية التي بنت إحدى الحضارات الكبيرة في العالم، وهي الحضارة الإسلامية التي اشتُهِرَت بقدرتها على الإبداع في جميع المجالات العلمية والأدبية والفنية، وعلى التفاعل مع الحضارات الأخرى المجاورة، البيزنطية والعجمية والفرنجية والهندية، واستيعابها واكتساب معارفها وتوطينها. وهي اشتُهِرَت كذلك بقبول التعددية العرقية والدينية والمذهبية. وقد لعب كل من الخلافة الأندلسية والعباسية دوراً طليعياً في إرساء مقوِّمات تلك الحضارة التي أصبحت اليوم من الماضي بعد أن اختلفت كل الظروف والأزمنة، كما يقول ابن خلدون. فعلينا أن نعيد بناء شخصيتنا العربية ونظامنا الإدراكي ومعارفنا على ضوء كل التطورات التي حصلت وألاَّ نضيِّع الجهود في مسعى تخيُّلي إلى العودة إلى أولى حقبات ظهور الإسلام كما يفعله الفكر الأصولي المتشدد.
ومن أجل ذلك، لا بدَّ من النظر إلى قضيتيْن رئيسيتيْن، إحداهما تتعلق بما تحتاج إليه أنظمتنا التربوية من إعادة نظر شاملة، سواءً في المناهج أو في طرق إدارتها؛ والأخرى تتجسَّد في ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية التي أصبحت مفقودة تماماً من المحيط إلى الخليج كما تم ذكره سابقاً. وإذا كانت القضية التربوية مدار دراسات عديدة بما فيها دراسات حول طرق استيطان العلم والمعرفة والتقنيات في المجتمع العربي، فإنَّ قضية انعدام العدالة في توزيع الثروات والمداخيل قد أصبحت غائبة تماماً عن المشهد الفكري العربي، وذلك بعد أن اجتاحت موجة النيوليبرالية العربية تعليم الاقتصاد في جامعاتنا العربية أو بعد أن درس الجيل الشاب من العرب في الجامعات الاميركية والأوروبية مبادئ النيو ليبرالية وتعلَّق بها. فاللُّحمة المجتمعية لا يمكن أن تتحقق فقط عبر التعليم والنهضة الثقافية، إنَّما يجب أن تكون مستندة إلى آليات عادلة في توزيع الدخل بين كل الفئات الاجتماعية. وفي هذا الخصوص، لا بدَّ من التذكير بالوضع التناقضي الفضائحي في سائر المجتمعات العربية حيث نرى معدلات بطالة عالية للغاية عند العنصر الشاب، وبشكل خاص المتخرّج من جامعاتنا، ممّا يسبب نسبة هجرة أدمغة أعلى من أي بلد آخر. هذا يعني أننا في وضع نزيف بشري يحول بدوره دون بناء المنظومة الإدراكية والمعرفية العربية.
إنَّ المستقبل العربي مجهول وغامض وملتبس. لا أحد يعلم من المحيط إلى الخليج، إلى أين نحن سائرون ولماذا نبقى بهذه الحالة من التشتت والتمزق وفقدان العدل والتنمية في جميع أوجهها. ومرد ذلك في نظرنا إلى غياب المنظومة المعرفية والإدراكية الجامعة، المتكيِّفة مع التحديات الموصوفة هنا، والمعالِجة لأسباب الإحباط والوجدان المشرذم والمتناقض بين اتجاهات متناقضة. وفي استمرار غياب بناء المعرفة والإدراك السليم وأنظمة قيمية تستوعب تحديات العصر وتستعيد عبقرية الماضي المنسية، فليس لدينا أية إمكانية لتحديد أهداف يجتمع حولها العرب، قطرياً كما قومياً، لإعادة إثبات وجودهم التاريخي وإعادة تكوين حضارتهم الخاصة بهم. ومن الواضح أنَّ المجتمعات العربية بمعظم شرائحها تعيش اليوم في غياب مثل هذه الأهداف، وهذا ما فجّر الحركات التكفيرية التي تمارس العنف الأعمى في مواقع عديدة من الوطن العربي ضد المواطنين العرب الأبرياء، أكثر مما تمارسه ضد المحتلين الغزاة.
وفي المقابل، هناك نقاط مضيئة من المقاومة الفعّالة للهيمنة الأميركية ـ الصهيونية الاستبدادية على المنطقة، في فلسطين كما في لبنان، والمتجسِّدة في حركتيْ حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين، اللتيْن تحظيان بمؤازرة القطر العربي السوري والحليف الإيراني وأجزاء واسعة من الرأي العام العربي، وهما حركتان ذواتا أبعاد عديدة عقائدياً، إذْ يتوجّه خطابهما، سواءً على المستوى القطري أو القومي أو العربي أو الإسلامي.
وعلينا أن نساند تينك الحركتيْن، ليس فقط نظراً لفعاليتهما وإصرارهما على مجابهة المحور الأميركي - الصهيوني، وإعادة الكرامة إلى المواطن العربي، بل أيضاً لكيْ نساهم في خلق البيئة الفكرية التي يمكن أن تنصهر فيها مستقبلاً هاتان الحركتان لكيْ تتمكنا من تعميم روح المقاومة مهما كانت دوافعها العقائدية. وأعني بذلك بناء هذه المنظومة المعرفية والنظام الإدراكي والقيَمي المطلوب منه القضاء على أسباب التفرقة والفتنة بين العرب، وهي عديدة وفتّاكة.
وعلينا أيضاً جميعاً التعاضد في إرساء دعائم الحوار الفكري البنَّاء لأنَّ أزمة العجز العربي الفاضح خلال الثلاثين سنة الأخيرة ليست إلاَّ انعكاساً لأزمة فكر عميقة، ناتجة عن التطورات الدراماتيكية المتلاحقة على مسيرة مجتمعاتنا خلال القرنيْن الماضييْن.
وحبذا لو نصل إلى الوعيْ الكافي لخطورة استمرار مثل هذه الأزمة، فنعالجها بالجدية المطلوبة كيْ لا نستمر على طريق الوهن والخضوع إلى إرادة الآخرين الأقوياء.
هوامش
(1) إنَّ الاقتباسات من كتابات ابن خلدون منقولة عن الدراسة القيِّمة التي وضعها الدكتور ناصيف نصار ونُشِرَت بعنوان «ابن خلدون في منظور الحداثة» في مجلة المستقبل العربي، العدد 334، بيروت، كانون الأوَّل/ ديسمبر 2006.
(2) أنظر المرجع المذكور سابقاً.
--------------------------
جريدة السفير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق